فؤاد الصباغ *
تشهد وسائل الإعلام والساحة السياسية والإقتصادية اليوم إهتماما كبيرا بفيروس القرن المسمى بـ الكورونا نظرا لما تسبب به من شلل للحياة العامة بصفة كاملة وشاملة وكبح جميع دواليب الدول علي بكرة أبيها. إذ في هذا الصدد لم تكن هذه المرة الأولي لبروز تلك النوعية من الفيروسات بحيث شهد العالم منذ الأزل العديد من الأوبئة منها إنتشار وباء الطاعون الذي تسبب في مقتل 200 مليون شخص في العالم وأوبئة أخري أقل خطورة مثل الكوليرا والسل والجدري وصولا إلي الفيروسات الحديثة تحت مسمي الفيروسات التاجية مثل السارس وإنفلونزا الطيور والخنازير ومتلازمة الشرق الأوسط والإيبولا.
أما فيروس كورونا الحديث فهو يتمتع بخصائص نوعية تختلف جذريا عن سابقاتها منها سرعة إنتشاره عبر العدوى بطريقة رهيبة وغريبة متجاوزا بذلك الحدود بين البلدان وتكاثره في الخلايا البشرية بالمليارات في بضع ثواني وبقائه في الهواء وعلى سطح الأماكن العامة والخاصة لمدة تتجاوز أحيانا 24 ساعة، ليضرب بذلك في صميم قلب الإقتصاد العالمي ويطرحه علي فراش الركود أوربما الهاوية.
لكن في المقابل لا تبدو الصورة الإستشرافية الإقتصادية على المدى القصير أو الطويل سوداء كثيرا نظرا لبعض الإجراءات التحفيزية للإقتصاد العالمي من جانب صندوق النقد الدولي عبر الإقراض السريع لبعض الدول المتضررة من هذا الوباء أو أيضا لمخرجات مجموعة العشرين الإفتراضية تحت قيادة المملكة العربية السعودية عبر الأقمار الصناعية والتي خصصت خمسة تريليونات دولار كمخطط إنقاذ سريع أو تأسيس صندوق تحوط لمكافحة وإحتواء هذا الفيروس القاتل. كما أن التوقعات على مستوي المؤشرات الإقتصادية العالمية تشير إلى إنخفاض نسبة النمو الإقتصادي العالمي بنسبة 20% وزيادة العجز التجاري نظرا لتباطؤ الحركية الدولية مع إحتمال إفلاس بعض شركات الرحلات والأسفار وشركات الخطوط الجوية إذا تواصلت تلك الأزمة إلي موفى هذه السنة.
كذلك من أبرز المتضررين من جائحة الكورونا نذكر بالأساس قطاع السياحة والخدمات بحيث أصبحت مهجورة تقريبا ولا تبشر بموسم قادم جيد. أما بخصوص الأسواق المالية فكانت التأثيرات واضحة عليها خاصة منها تلك الهيستيريا الكبيرة في التذبذب لأغلب المؤشرات الخاصة بالعملات والأهم من كل ذلك إنهيار مؤشر الداو جونز عبر ذلك السقوط العمودي السريع خلال شهر أبريل والذي لم تشهده منذ سنين طويلة.
كما يعتبر ذلك المؤشر الصناعي الأمريكي المحفز الأساسي للشركات الصناعية والذي يعكس بدوره القيمة الحقيقية للإنتاجية العامة الأمريكية. أيضا تضرر أسعار النفط خاصة على الدول المنتجة بحيث بلغ سعر البرميل إلى حدود 22 دولار وهذا يعتبر ضرر كبير علي عوائدهم المالية المتأتية من الثروات الطبيعية. أما بقية المؤشرات التكنولوجية لم تشهد تضرر كبير بإعتبار أن الإقبال الشعبي أصبح مركز عليها بشكل كبير خاصة منها العمل عن بعد في مجال التعليم والتعليم العالي وإدخال البيانات لبعض الشركات العالمية عن بعد أو الخدمات البنكية والتجارية الإلكترونية. بالتالي تعتبر التكنولوجيا المستفيد الأكبر من إنتشار فيروس كورونا بحيث تشهد منتجاتها حاليا إقبالا كبيرا من حيث الشراء والإستخدام.
كذلك صناعات الأدوية ومشتقاتها شهدت إرتفاع كبير لنسبة أرباحها مقارنة بالسنوات الفارطة وذلك بشكل ملحوظ عالميا وأيضا نذكر مواد التعقيم والتنظيف والأوراق الصحية والمواد الغذائية التي شهدت بدورها مبيعات كبيرة جدا في فترة وجيزة جدا.
فبالنتيجة لم تتضرر القطاعات الإنتاجية الغذائية والصحية وكان الضرر مقتصر فقط على تباطؤ بعض الصناعات المعملية نظرا لتوقفها عن الإنتاج وتسريح عمالها تخوفا من إنتشار العدوى. إذ حاليا لا يمكن التقدير الإقتصادي الإستشرافي الصحيح لنتائج هذا الوباء لأن الحظر والحجر الصحي مازال محدودا وفي مراحله النهائية.
لكن السؤال المطروح هل ستصمد الشركات الصناعية بعد رفع الحظر الكلي وعودة العمال للدوام اليومي؟ وهل ستكون الدول قادرة علي التعامل مع خطورة إحتمال الإصابة بهذا الفيروس مجددا والدخول في مرحلة ثانية تصاعدية نظرا لتواصل إنتشاره عبر العدوى وعدم إيجاد له "دواء ناجع ولقاح ناجح" قادر علي التخلص منه بصفة نهائية؟.
إجمالا، تعتبر تأثيرات فيروس كورونا على الإقتصاد العالمي خلال الثلاثي الأول من سنة 2020 محدودة وتبدو التأثيرات السلبية واضحة فقط خاصة من جانب إنخفاض توقعات نسب النمو الإقتصادي الإجمالي وكبح برامج التنمية وتقلص المبادلات التجارية وإرتفاع نسب البطالة بحيث فقدت الملايين من الأشخاص وظائفهم من خلال التسريح المؤقت أو الكامل في إنتظار النتائج الصحية والأمنية المرتقبة بعد رفع الحظر والحجر الشامل والكامل.
أما التأثيرات الإيجابية كما يقولون تصنف "بمصائب قوم عند قوما فوائد" وهي تتركز بالأساس على إنتعاشة الصناعات الإلكترونية والغذائية والأدوية ومشتقاتها وخاصة التكنولوجيا مثل نيت فليكس وزووم من خلال تكثيف ظاهرة العمل عن بعد والتزود بتجهيزاتها.
بالنتيجة مازال الإقتصاد العالمي متماسكا إلي حد الآن بعد مرور أربعة أشهر من إنتشار عدوى الفيروس القاتل المسمى بـ الكورونا والمصنف كوباء عالمي شل جميع الحركة الطبيعية وألزم جميع شعوب العالم بيوتهم حتى إشعار لاحق.
كما أن توقعات حصول أزمة عملات أو مصرفية غير واردة حاليا ومستبعدة كليا لأن الإنتاجية أصبحت مرتكزة بالأساس علي العالم الإفتراضي وصناعات الأدوية ومشتقاتها من التعقيم والتنظيف والصناعات الغذائية والتي أضحت توفر اليوم في مجملها السيولة اللازمة ولو جزئيا حتي العودة تدريجيا إلي الحياة الطبيعية.
* كاتب تونسي و باحث اقتصادي دولي
Comments