بروفسور نسيم الخوري
1- إهداء: إلى طلاّب الجامعات في لبنان.
يرفع هذا النص قبّعته لطالبات وطلاّب لبنان المستقلّين الذين خرجوا من أضلاع ثورة 17 تشرين التي أمعنت وتمعن الدولة والأجهزة الأمنيّة والأحزاب الطائفيّة في قمعها وتكسير أضلاعها.
للمرّة الأول منذ نهاية الحرب الأهلية 1989، نسف طلاب الجامعات الخاصّة أخيراً الواقع المريض، وأفرزوا قياداتهم الطلاّبية المستقلّة بنسبة 85 % من الأصوات وأطاحوا بممثلي الأحزاب التقليدية الممسكة بلبنان منذ ال1992، وهو ما أنتظره وأتوقّعه طيلة حياتي الأكاديمية وحتّى وأنا أكتب مقالي الأسبوعي هذا. متى يهبّ ال85000 طالبة وطالب في الجامعة اللبنانية للإلتحاق بالثورة؟
2- في المقال:
خلافاً لغالبيّة اللبنانيين، تتمطّى حفنة من السياسيين في مستنقعاتها الآسنة وقد تملّكت بهم أمراض التورّم والجشع والدكتاتورية والعبث بالآخرين والتاريخ، وتتلصلص على المؤتمر الدولي الذي دعا إليه إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي لتحفيز المساعدات الإنسانيّة وتجميعها في سلالٍ لجياع لبنان البائس ب"حكّامه". بانت الأبجديات العالميّة، وظهر الحبر بالألوان كلّها يحتقر بإزدراء زعماء السياسة في لبنان. إنّه الصمت الرهيب يتجاوز شحنات الموت لمن تبقّى في هذا اللبنان.
نظرت إليّ دامعة طالبة الدكتوراه في علوم الإعلام، تتوسلني لأن أجد لها أي عملٍ في دبي أو في أيّ زاوية من العالم. مسحت دمعتها وقالت مخنوقةً: " لبنان بلد بلا قلب وبلا عقل، أبحث عن وطنٍ له عقل وقلب"... فكان عنوان المقال: لبنان بلا عقل ولا قلب لها " لا بدّ من تكسير تلك القشور الصدئة الصلبة عن وجه لبنان. صدّقوني...ماعاد يعنيني، خارج أطر أوطان الدنيا، سوى البحث في لبنان عن مفهوم هذه الدبلة عفواً الدولة. لماذا؟
لأنّنا انسحبنا جميعاً بلهاء إلى صفوف الحضانة الوطنيّة حيث ما عاد يفهم الواحد أحداً أو كأنّ صيغ السلطات وسلوك ممثّليها قد تحجّرت في كهوف مباديء الحقوق الإلهيّة والطائفية والمذهبيّة وكلّها أوصلتنا إلى حفر الأحاديّات البالية في النظرة إلى الحقيقة تحكمها مركزية خفيّة تضم تحت "ثوبها" ومؤسساتها سلطات الأمكنة بمعنى البقع والأحياء الدينية وتشتّت الأزمنة والتقويمات والأعياد المتقابلة في الشكل والجوهر، وموت الحياة الإجتماعيّة المتلحّفة بالكورونا وقد شلّت معها الشرايين التغييرية. صارت مشاهد بقايا سكان المدن والعائلات مثل جحافل النمال الجرّارة المجنونة التي تدور حول نفسها تحت الشمس الحارقة بأجسام نحيلة جائعة فتموت.
لم يبق سوى وسائل الاعلام البائسة والمواقع الفارغة للتواصل الهش، ومختصرها أنّ سلطة الحقوق الطبيعية البشرية والإنسانية قد آلت في العديد من المجتمعات اللبنانيّة إلى تشظيات المركز أو المراكز إذ صار البوق أبواقاً لا تنتهي معظمها مأجور للشتائم والسباب الطائفي وتوسيع الشروخ. وفي النتائج القريبة، انهيارات بصيغ الجمع على مختلف الصعد، لصالح مبادئ أو أصوات بعيدة خافتة ربّما تحمل حرية الانسان اللبناني في نظرته الجديدة المختلفة إلى السلطة.
يتقدّم العقل الجائع، المهموم بالحاجات اليومية البسيطة إلى البحث، إذن، عن انهاء مطلقيات سلطات الجبابرة، لأنّ السلاطين من كافة الملل والنحل هم الذين يغتالون الانسان اللبناني الذي هو مقياس كل شيء، بل هم الذين يذلّونه أمام الدول وممثليها وشعوبها وشاشاتها ومنظماتها الإقليمية والدوليّة والتاريخ.
هناك أجيال شابّة، مثل تلك الطالبة فيمعظم الجامعات والساحات والأرحام، في الداخل والخارج، تقفز فوق تاريخ لبنان الديمقراطي الفارغ والمرسوم والمألوف من الخارج في مئوية تأسيسه، وهي ستقدّم قطعاً برهاناً قويّاً على تكسير القشور الكلسية الصلبة المتراكمة فوق وجه لبنان المهلهل، وتؤكّد جدارة الأبعاد الانسانيّة في ممارسة السلطات مكان الضمانات الإلهية في الحقوق المطلقة حتّى ولو كان التغيير دمويّاً قاسياً في إعادة بناء الدولة الانسانية. وإذ لا يعود هناك مكان لليأس لإفراط السلطات في إشاعة اليأس، تتجدّد السلطات في تخليص المؤسسات التي قد تبقى تختلف باختلاف المجتمعات، لكنّها تمثّل الناس عبر تحرير مؤسّسات التشريع، والقانون، والاتحادات، والنقابات، والمنظمات المهنيّة، وخصوصاً الجامعات، والهيئات الأكاديميّة، ومؤسّسات الأبحاث، والمؤسسات العسكرية وكل ما له علاقة بإعادة تنظيم بشؤون المجتمع، من رموز السلطات المطلقة باسم الدسمقراطية المزيّفة.
لا تعود السلطة وفق هذه الرؤية الحرّة في انفلاش مفاهيمها وممارساتها على المؤسسات موضع بحث تحت قبعة السلطان لأنّ الفجائع تكمن في اختلاط السلطات اللبنانيّة كمفهوم بالسيادة المفقودة منذ ما قبل التاريخ.
هذا الإدّعاء "الديمقراطي" السخيف في لبنان يدفعني للتشكيك في السيادة والسلطات في لبنان. ما زالت المقدّسات هي سلطات لبنان إذ لم تتمكن "شعوبه" التخلّص من ترسّبات مفاهيم السلطة في معانيها المطلقة القديمة أي السيادة التي جعلت القرارات بيد الخارج كلّ خارج من أميركا إلى روسيّا مروراً بفرنسا والقوى الإقليمية العربيّة والإسلامية المسكونة بخلافاتها العقائدية .
السيادة العليا انتساب عفويّ إلى جملة من العقائد، والرموز، والأفكار، تجعل المواطن في خدمة هذه السيادة، بينما السلطة أو السلطات مسائل خارجيّة بالقياس لمن تمارَس عليه لأنّها تستند في شرعيتها إلى السيادة العليا. فالإجبار، والقسر، والخضوع، في اندماج مع الحرية، والرفض، والخيار، تولِّد قطعاً الانتساب الحرّ العفوي، أو الخضوع الإجباري المكره، الذي يقود حتماً إلى التمرّد والثورات والنزاعات التي نشهدها في الغابات وخصوصاً عندما تركد المجتمعات على لذّة الإتّكالية والإستيراد والإعتماد على الآخرين وفقاً للنموذج اللبنانيّ اللزج.
عندما تضعف السيادة العليا، أو تنهار، تزداد سلطة الدولة، وتنتشر وتقوى وتستشرس على شاباتها وشبابها ومواطنيها كما يحصل في لبنان اليوم. وما إن تضعف سلطة الدولة وتتآكل وتنهار حتى تقوى السيادة العليا تعويضاً عن هشاشة هذا الضعف، كما هو غير حاصل في لبنان اليوم. السيادة إنتماء وإرتباط عاطفي بأرض وشعب وتاريخ وبقوميّة أوبدين تتحوّل إلى هويّة خالدة بينما تؤخذ السلطة ملكاً وراثيّاً وعنوةً وانتخاباً وهي بالتالي، أنظمةً وإدارات وأشخاص والسلطات قد تضيع ويتمّ انتزاعها بالقوة والقتل.
لكنّ أن تختلط السلطات والسيادة لفريق صغير من اللاعبين يمارس أزماته وثوراته وخلافاته وسرقاته فهذا يعني الوصول إلى بقعةٍ ملفوظة لا سلطة فيها ولا سيادة ولا ماض أو حاضر أو مستقبل .
*كاتب وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه
nassim.khoury@gmail.com
Comments