بقلم: مارون سامي عزّام
ولادة الطفل يسوع حدث عظيم، لكنه خرج من نطاقه الدّيني التقليدي، وتطوَّر مع الزَّمن إلى موسمٍ احتفاليٍّ موسَّع، له أبعاده الماديّة الواضحة. جميع الفعّاليّات الميلاديّة التي نشهدها في هذه الأيّام، عبارة عن ماراتون تجاريّ بين أصحاب المحلات، ليصلوا إلى هدفهم المنشود، وهو التنافس على جيوب الزّبائن، المنبهرين من تميُّز معروضاتهم، و"المندهشين من أسعارهم الشعبيَّة"!!، فلذلك يشترون ما يحتاجون من مستلزمات وحاجيّات الميلاد، ولوازم الزّينة، ليزيّنوا بيوتهم من الداخل، والخارج.
هناك بيوت مزيّنة من الخارج بكميّات كبيرة من الأضواء المتوهجة، تحسبها أجسامًا غريبة هبطت عليها من الفضاء الخارجي ليلًا، إذ لا تستطيع رؤية أبواب هذه المنازل، فتغدو "مَعالَمًا سياحيّة" للمارّة والمعنيين برؤية هذه المجسّمات الاحتفاليّة المُبالَغ بها، ممّا لا شك فيه أنها لفتت كذلك، أنظار سكّان فندق الفيسبوك العالمي!!
إن إضاءة شجرة الميلاد هو تقليد عالمي، وتحوَّل في بلادنا إلى مناسبة جماعيّة هامّة كبيرة، تجمع جميع الأهالي الفرِحين، فيها تجسيد لميلاد الوحدة بين أبناء جميع الطّوائف، رغم حدوث بعض الأعمال التخريبيَّة للشجرة، لكنها كانت تزيد من إصرار المواطنين على الالتفاف حولها، كإعلان تجديد الثقة بالتعايش، فتُولَد المحبَّة والأُلفة والاحترام بين الطوائف.
هناك مجموعة من المبادرين الشّباب يقيمون سوقًا ميلاديًّا مُصغّرًا، يحتوي على أكشاك خاصّة، يعرض أصحابها منتجاتهم، وتكون الأسعار مرتفعة كارتفاع عدد المشاركين الذين يتجوّلون بينها في مجمَّع ميلاديٍّ مؤقّت. معظم الوافدين هُم من الشّبان والشّابات، مع أنهم يعرفون أن الاستغلال المادي هو الأساس الذي يدفعهم للشّراء.
يجد جيل الشّباب بهذا السّوق كل ما يشتهون، وبما يتماشى مع أذواقهم المتحمِّسَة، كإحضار مطربين معروفين محليًّا، يقفون أمامه، يردِّدون أغانيه المنقولة عن مطربي دول الجوار، لذلك يجدها هذا الجيل فرصة نادرة ليزاولوا نشاطهم الشبابيّ في بلداتهم، وبالأخص خلال شهر الأعياد المجيدة، لأن مجتمعنا طوال السنة يعاني من قفر ترفيهي!
يجب أن نضع نهج العطاء ضِمنَ أولويّاتنا، مبتعدين عن حب الذّات، لنرفع ستار البؤس عن فئة غير قليلة من النّاس، حتّى يتسنّى لهم سماع أجراس البشارة أيضًا. علينا أن نبادر لتكوين رصيدٍ من الأعمال الخيريّة غير المعلنة، لتنشلهم حبال المسرَّة من وَحْل أحزانهم الملطّخة بالهموم، حتّى يشعُروا أنهم ضمن دائرة الاهتمام المجتمعي.
التخفيف من الاستعراض الميلادي المغري، أمر ضروريّ للغاية، لأنّه يضايق المحتاجين، يدب الحسرة في قلوبهم، العاجزين كلِّيًّا عن شراء ملابس العيد وتوابعه، لأنهم منبوذون، لا أحد يساندهم... ما "يشغل بال" المحلاّت التجارية، هو استمرار لعبة التسويق الذّكيَّة، تحت رعاية ثقافة الرّبح المادي والترحيب بتضاعف كميّة المبيعات!!
شجرة الميلاد... مذود... بابا نويل، رموز تبشّر بولادة طفل المغارة، يحبّها الأطفال كثيرًا، ولكنّها فقدت سماتها الرّوحيّة، فالميلاد بالنسبة لهم تقديم الهدايا من قِبَل الأهل بواسطة شيخ العيد، الذي يُشكِّل حلقة الوصل بين خيال الطفل ورغباته، مع أن بابا نويل موجودة داخل الأسرة طوال السّنة، متمثّلةً بمعيل الأسرة، الذي يجلب الهدايا لأطفاله بين فترة وأخرى.
بات "بابا نويل" هذا العصر مزعج جدًا، يرعب قسمًا كبيرًا من أطفالنا، ولم يعُد لطيفًا، مكياجه فاقع، ملامحه مرعبة، يضع لحية كثّة، يصحبه مدير الفرقة المبشِّرة بقدومه، مع مجموعة من حرّاسه الشّبان، الذين يقومون بحملة "مداهمة" للبيوت بسيّارات مجهّزة بتسجيلات من أغاني الميلاد، بصوتٍ صاخب جدًّا!، يزعزع سكون الحي، فيترجَّل من السيّارة شاب متنكر بزي بابا نويل الأحمر، وما أن يراه الأطفال، أو بمجرّد يضعهم في حضنه، يفزعون من شكله، فيجهشون في البكاء. هل هكذا تُقرَع أجراس تحقيق أمانيهم "بهيزعة تبشيرية" مُفزِعَة؟! أينَ تلاشت اللفتة الحضاريَّة في مثل هذه الأجواء؟!...
لم يعُد رمز العيد لونه أحمر، بل هناك خطٌّ أحمر آخر، يزداد طولًا، يضم تحته الذين يحتاجون إلى أمن اقتصادي وغذائيّ، فجفَّت روافد الإنسانيّة، وانجرَف تفكير الإنسان مع السيول المادية الموجّهة مسبَقًا لتصب في ينبوعَي البذخ والتّرف الموسميَّين. فلماذا إذًا اختفت نشاطات مؤسّساتنا!؟ جميعنا بأمَسِّ الحاجة إلى بشارة التَّحنُّن لتُلامس برودة أعماقنا، لأن هذا الزّمن الكامد، لن يُنصِف أحدًا، فيتوجَّب أن نتصدّى له بعزمنا ونقاومه بقدراتنا الذِّهنيَّة، كي ننشر بشرى الوفاء الدَّافئة بين المتكلِّفين، خلال شهر الميلاد.
Comments