متابعة كريم حداد
بعد مرور شهر على اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، يجد لبنان نفسه في مواجهة مفترق طرق حاسم يتطلب توازنًا دقيقًا بين تطلعات الاستقرار الداخلي وتعقيدات الوضع الإقليمي. ورغم التهدئة الظاهرة، يبقى المشهد اللبناني هشًّا، مع ارتفاع وتيرة التساؤلات حول مدى قدرة الأطراف الداخلية على تحويل هذه الهدنة إلى فرصة للإنقاذ، خاصة مع اقتراب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في 9 كانون الثاني 2025.
استمرار الهدنة يبدو ظاهريًا دليلًا على توافق ضمني بين الضغوط الإقليمية والدولية، إلا أن التوترات الكامنة تجعلها أقرب إلى استراحة مشروطة. في هذا السياق، يحاول الجيش اللبناني تعزيز هيبة الدولة من خلال عمليات مداهمة ومصادرة أسلحة غير شرعية، في خطوة تبدو وكأنها إعادة رسم حدود النفوذ بين الدولة وحزب الله. الأخير، الذي يواجه ضغوطًا داخلية ودولية متزايدة، يجد نفسه بين واقع سياسي داخلي متأزم والتزاماته الإقليمية، ما يضعه في موقف دفاعي قد يفرض عليه إعادة تقييم أولوياته. ومع ذلك، فإن أي خرق أمني أو تصعيد ميداني قد يُعيد الوضع إلى نقطة الصفر، ما يهدد بفشل الجهود الرامية إلى استقرار طويل الأمد.
على المستوى السياسي، يُعدّ دور الكتل النيابية محورًا أساسيًا في رسم معالم المرحلة المقبلة. الكتل المنتمية إلى المنظومة الحاكمة تبدو عالقة في استراتيجية المماطلة والتعطيل لضمان استمرار نفوذها التقليدي، فيما تحاول قوى المعارضة طرح مرشح توافقي يعكس تطلعات الشعب اللبناني. ومع ذلك، فإن الانقسامات داخل صفوف المعارضة تُضعف من قدرتها على فرض أجندتها السياسية. في المقابل، يُتوقع أن يلعب النواب المستقلون والتغييريون دورًا محوريًا، إذ يمكنهم ترجيح كفة الحل إذا تبنوا موقفًا موحدًا يضغط باتجاه إنهاء حالة الشغور الرئاسي.
على الصعيد الاقتصادي، يزداد الوضع تفاقمًا مع تصاعد معدلات الفقر وغياب أي مؤشرات جدية للإصلاح. تداعيات الحرب الأخيرة ضاعفت من الأعباء الاقتصادية، حيث تبدو المساعدات الدولية مشروطة بإصلاحات لم تتحقق بعد. ومع غياب الاستقرار السياسي، تتزايد المخاوف من أن يفقد لبنان فرصًا حيوية لإعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي، ما يزيد من معاناة اللبنانيين الذين باتوا ضحية الجمود السياسي والانهيار المالي.
إقليميًا ودوليًا، تحمل المرحلة الحالية فرصًا وتحديات. القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، قد تضغط لتسريع انتخاب رئيس جديد كجزء من تسوية شاملة تُرضي مختلف الأطراف. في المقابل، فإن استمرار التوتر بين إيران والسعودية، أو أي تصعيد إقليمي، قد يُعيد لبنان إلى دائرة الصراع ويُعقد المسار السياسي.
لبنان اليوم أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسية: إما أن تنجح القوى السياسية في استثمار الظرف الراهن للوصول إلى توافق داخلي يؤدي إلى انتخاب رئيس جديد وإطلاق إصلاحات تدريجية، أو أن تنهار الهدنة بسبب خروقات ميدانية، ما يؤدي إلى تعطيل الاستحقاقات الدستورية وعودة التصعيد. أما السيناريو الأكثر خطرًا، فهو استمرار المراوحة الحالية، حيث يستمر الشلل السياسي والاقتصادي، ما يهدد بإطالة أمد الأزمة وتعميق المعاناة.
في ظل هذه المعادلة المعقدة، يبقى السؤال: هل تتمكن القوى اللبنانية من تجاوز خلافاتها واغتنام الفرصة لبناء دولة المؤسسات، أم أن استمرار التناقضات الداخلية سيُبقي لبنان عالقًا في دوامة الأزمات؟ الإجابة عن هذا السؤال ستحدد مصير البلاد في الأشهر المقبلة.
Comments