السفير د. هشام حمدان *
لم يكن انتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهوريّة، مفاجئاً لنا. توقّعنا ذلك. كلّ المؤشّرات التي كنا نراقبها، دلّت على هذا التّوجّه. فمنذ اتّفاق وقف النار، كان التوجه هو تكريس مفاعيل هذا الاتفاق سياسياً، من خلال انتخاب رئيس للجمهوريّة، يواكب متطلّبات تثبيت الاتفاق عسكريّاً. لكن ما لفتنا وجعلنا نعيش فرحا عميقا، هو خطاب القسم.
فخطاب الرئيس المنتخب، شكّل تحقيقا لحلم سيادي لم نصدّق يوما أنّنا سنسمعه بمثل هذا الوضوح في هذا المجلس النيابي، وبين طغمة من قادة سياسيين أوصلوا البلاد إلى حالتها الراهنة. هذا الخطاب، في هذه المرحلة بالذات، يؤكد بما لا يقبل أيّ شك، أنّ زمن الحروب والمآسي في لبنان قد انتهى. لا عودة إلى لبنان ما بعد السبعينيّات. هذا الخطاب، يثبت أنّنا دخلنا الشرق الأوسط الجديد. وأنّ لبنان لن يكون بعد الآن، ساحة لحروب الاخرين. قال الرئيس بايدن إنّ لبنان يستعيد سيادته. وهذا هو المعيار الأهم الذي حكم انتخاب الرئيس عون، أقصد بالطبع الرئيس جوزف عون.
ما أكبر الفارق بين جلسة انتخاب ميشال عون وجلسة انتخاب جوزف عون. انتخاب الرئيس ميشال عون كان موقفاً أميركياً فرنسياً، غلبه مفهوم الدولة القومية، حيث تغلّب الدول مصالحها الوطنيّة على قيم الشرعيّة الدوليّة. كان انتخاب ميشال عون مكافأة لإيران لتوقيعها آنذاك، الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، واتفاق الطاقة مع باريس. كان كل ذلك على حساب لبنان. أمّا انتخاب الرئيس جوزف عون الآن، فإنّه يمثّل عودة فرنسيّة أميركيّة إلى مفهوم الليبراليّة الديمقراطيّة التي يترجمها ميثاق الأمم المتحدة ونظام عملها. انتخابات الرئاسة في لبنان، بداية الإنتقال بلبنان إلى نظام العولمة الذي يفرض الخروج من سلطات الديكتاتوريّات والأنظمة الإيديولوجيّة الشموليّة. لطالما شرحنا لسنوات طويلة، أن نهضة الأخوان المسلمين، ونظام ولاية الفقيه، تحت عنوان الرّبيع العربي، كان وسيلة في لعبة الفوضى الخلّاقة لإنهاء إيديولوجيا القوميّة الثوريّة العربية التي كان آخر من يمثّلها الرئيس السوري بشار الأسد. عملية بناء الشرق الأوسط الجديد تفترض أن يحكمه نظام العولمة القائم على المصالح الإقتصاديّة.
أسعدنا جدا إلتزام الرئيس عون باتفاق الهدنة. هذا الاتفاق هو الذي سيؤمّن فعلا إستدامة لوقف النار، والتهدئة على جانبي الحدود. نفهم أنّه سيتمّ الذهاب إلى مفاوضات من أجل تثبيت الحدود بين البلدين. ونثق أن فخامته، سيلتزم ما التزم به كقائد للجيش، بالنسبة لاتفاق الهدنة. نحن لا نرسّم الحدود، بل نظهر الحدود. تمّ ترسيم الحدود فعلا، عند توقيع اتفاق الهدنة عام 1949. ما نحتاج إليه هو إظهار الحدود. هذا الأمر، قد يحتاج إلى خبراء أخصّائيّين مستقلّين. ويمكن لهذا الغرض، العودة إلى المادة 36 الفقرة الثالثة من ميثاق الأمم المتحدة، وإحالة المسألة إلى محكمة العدل الدوليّة للمساعدة.
كما أنّ التزام فخامته بإعلان بيروت لعام 2002، يؤكّد أنّ لبنان يؤمن بالسّلام، وبحلّ الدولتين في فلسطين المحتلّة، وسيذهب إلى السلام بالشراكة مع أخوانه العرب. لبنان أكّد التزامه ميثاق جامعة الدول العربيّة، كما أكّد في آن معا، إلتزامه الشرعيّة الدوليّة.
وقد أفرحنا كثيرا إلتزام فخامته بتحييد لبنان عن النزاعات الإقليميّة والدوليّة. لبنان يجب أن يكون مركزا دائما للأمم المتحدة لحوار الحضارات، والديانات والثقافات. ولذلك، يفترض أن يكون محايدا، وأن يلعب دوراً لبناء الجسور بين المتنازعين خدمة للأمن والسلم الدوليين. لقد دعونا في مجموعة مبادرة لبنان الحوار، إلى تبنّي الأمم المتحدة إقامة مقر دائم لحوار الحضارات والثقافات والديانات في لبنان. هذا هو دور لبنان التاريخي.
ولا شكّ أن رغبة فخامته في تأكيد إستقلاليّة القضاء، وإقامة نظام الحكم الجيّد، هما أمران في غاية الأهمية. لكنّ هذا التوجه يفترض دعماً شعبياً عارماً يساعد في تحقيق الخلاص من آليّة النظام القديمة البالية. لا شكّ أنّ الإلتزام باتفاق الوفاق الوطني (اتفاق الطّائف)، هو المدخل الأساسي لهذه العمليّة. إلا أنّنا نرغب في أن نعيد لفت الانتباه، إلى برنامج بناء السلام بعد النزاع الذي تدفع به الأمم المتحدة لمساعدة الدول التي عانت من الحروب مثل لبنان، لاستعادة سلامها الأهلي وتوفيق نظامها مع المقوّمات الحديثة للنظام الدولي. فالتعاون مع هذا البرنامج، يدفع إلى تحقيق مبادئ الوفاق الوطني بما يتوافق مع المعايير الجديدة للنظام الدولي الراهن. وقد قمنا بتأسيس منظمة غير حكوميّة لهذا الغرض. ونأمل أن نقيم بالتعاون مع المرجع الوطني الكبير البروفسور فيليب سالم، مؤتمرا أكاديمياً دولياً في جامعة تكساس في أوستن، يدرس لبنان كحالة نموذجيّة في مفهوم بناء السلام بعد النّزاع.
ولعلّ أولى بديهيات بناء السلام، هو تحقيق العدالة للضحايا. نحن متمسكون بالموقف الدولي الرافض للتورية عن الجرائم التي لا تسقط بالتقادم. ولذلك، نطالب بتحقيق العدالة لضحايا جريمة تفجير المرفأ عام 2020. كما أنّنا رفضنا قانون العفو لعام 1992، معتبرين أنّه يمنح المسؤولين عن سفك الدماء في البلاد، مهربا للتّخلص من المسؤولية، ولا يحقّق المصالحة الوطنية. لكنّنا إدراكاً منا لخلفيات الأحداث وأسبابها، اقترحنا تقليد نموذج القائد الكبير نلسون مانديلا الذي أقام ما أسماه مؤتمر المصارحة والمصالحة.
تحدّث فخامته عن معاناة أصحاب الحسابات في المصارف الذين نهبت إيداعاتهم. وعليه، نرجو النظر بمطالبة الأطراف الخارجيّة التي أوصلت لبنان إلى واقعه المأساوي، بالتعويض عن الخسائر التي تكبّدها لبنان واللبنانيون. ويمكن مراجعة محكمة العدل الدولية لهذا الغرض. كما نأمل إنشاء هيئة قضائيّة مستقلة لملاحقة حالات الفساد وسؤال كلّ مسؤول قام على الشأن العام، من أين لك هذا؟ ويمكن تنظيم عمل هذه الهيئة القضائيّة وفقا لاتفاقيّة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وبالتعاون مع الهيئات غير الحكوميّة: اللبنانية، والدولية المعنيّة كمنظمة الشفافية الدولية، والرابطة الدولية لمكافحة الفساد.
* د. هشام حمدان، دكتور في القانون الدّولي العام منذ عام 1988. دبلوماسي لأربعين سنة. مثلّ لبنان في الأمم المتّحدة 12 سنة (1987-1999). عضو في لجنة الصياغة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية. شارك في إعداد أهم الإتفاقيات الدولية بشأن الإرهاب، وحقوق الإنسان، وحماية الملكيّة الفكريّة، وحماية البيئة، وقانون البحار. محاضر، باحث زائر في جامعة تكسلس في اوستن، كاتب وباحث لديه العديد من المؤلّفات القانونيّة.
Comments