بقلم: ألفة السلامي
جون ماري لوبان، الذي توفي الثلاثاء الماضي عن عمر يناهز 96 عاما، روج طيلة مشواره السياسي لأفكار يمينية شديدة التطرف والعنصرية؛ مع ذلك أصابني الذهول عندما قرأت الإشادة الواسعة بمناقبه في عدد من الصحف الفرنسية، وفي مقدمة هؤلاء طبعا زعيم حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف جوردان بارديلا الذي أشاد بمسيرته.
ربما من منظور "اذكروا محاسن موتاكم" تغاضت أيضا العديد من وسائل الإعلام عن أفعاله الكريهة، حيث يعد واحدا من أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل والفضائح خلال السبعين عاما الماضية، بداية بسلوكه خلال حرب الجزائر التي ارتكب خلالها، وفقا لشهود عيان، أعمال تعذيب عندما شارك مع المظليين في قصف الجزائر -وهي ممارسة دافع عنها لاحقا-وظل يعبر عن الأسف لاستقلال الجزائر طوال حياته!
ليس ذلك فقط بل إن سلوكه على هذا النحو في الجيش الفرنسي لم يكن ضد الجزائر فقط بل في الهند الصينية وهذا محل فخر من جانبه، بل إن جوردان بارديلا زعيم حزب التجمع الوطني الشعبوي أشاد بتلك الحقبة تحديدا في حياة لوبان، عندما نعاه قائلا: "رجل خدم فرنسا على الدوام ودافع عن هويتها وسيادتها في الجيش الفرنسي في الهند الصينية والجزائر". والحقيقة أنه ذكر أسوأ المراحل الاستعمارية في تاريخ فرنسا كمستعمر قديم وفي تاريخ هذا الضابط السابق في القوات الجوية.
انتخب لوبان نائبا في الجمعية الوطنية عام 1956، وهو في السابعة والعشرين من عمره، تحت راية حزب بيير بوجاد، وكان يمكن لهذا المغامر السياسي أن يتلاشى مع الجمهورية الرابعة لكنه نهض من رماد الكراهية والتعصب ليجعل اليمين المتطرف يزدهر، حتى انكشف وجهه القبيح في 21 أبريل 2002، عندما وصل للسباق النهائي للانتخابات الرئاسية في فرنسا ليواجه في الدور الثاني جاك شيراك ويتعرض لهزيمة كبيرة أمامه (82.21% مقابل 17.79%)، بعد مظاهرات يومية في شوارع فرنسا ضد الجبهة الوطنية لتقول "لا للوبان". وقد جاءت "لا" من الحشود بعد أن وصلت تصريحات لوبان في حملة الانتخابات الرئاسية إلى مستوى شديد السوء والبشاعة في التطرف بل واللاإنسانية. لقد عرف لوبان كيف يستغل بلا خجل المخاوف التي تعذب الطبقتين العاملة والمتوسطة في عصر العولمة: الهجرة وانعدام الأمن، وشبح خفض المستوى الاجتماعي والقدرة الشرائية لمواطن وضاعف الهجمات ضد مبادئ الجمهورية كلما أصبح أحد تروسه.
لكن تعد تلك الهزيمة في 2002 من جانب آخر أيضًا نقطة انطلاق لمرحلة ثانية من نمو الجبهة الوطنية، والتي أدت بعد أكثر من عشرين عامًا إلى رؤية هذه الجبهة أحد الأحزاب الرئيسية في فرنسا، تحت اسم التجمع الوطني وتحت مظلة حزب الجبهة الوطنية، تحت قيادة إحدى بنات جون ماري لوبان، مارين لوبان.
وقد شبهته جريدة لوموند في مقالها الافتتاحي حول وفاته بأنه شخصية "ترامبية" سابقة لعصره، بنفس الأداء في تعمد نشر الفوضى الاجتماعية والسياسية. ولعل الإنجاز الذي يتشدق به البعض من الشعبويين الذين رثوه في وسائل إعلام فرنسية هو أنه "نجح في تحويل الاسم إلى علامة تجارية"، بمعنى أنه جعل حزبه علامة مميزة بين الأحزاب المتنافسة في الساحة السياسية الفرنسية، وأعاد اليمين المتطرف إلى مركز السياسة الفرنسية، لكنهم تناسوا أن هذه العلامة التجارية سامة بشكل قاتل.
حيث ذهب مبتكرها إلى حد بعيد في الرجعية والعنصرية وكراهية الآخر سواء كان افريقيا أو عربيا أو من أي جنس أو عرق آخر كما حرض ضد كل المهاجرين في فرنسا دون النظر إلى كونهم شيدوا البلاد ويساهمون في نهضتها. إنه زارع الكراهية بامتياز بين فئات الشعب وقد جنى بعد ذلك ما زرعه ومن أقرب الناس منه، بناته اللاتي حجرن على تصرفاته وأصبحن بعد حكم قضائي منذ مطلع العام الماضي يدرن أملاكه وأمواله. والحقيقة أن ابنته ماري لوبان قد بذلت جهودا خاصة منذ عام 2015، لتهميش والدها ومحاولة شيطنة إرثه، بهدف تحسين السمعة الكريهة التي التصقت بحزب والدها، مع الحرص على توسيع شعبيتها على أمل الوصول لكرسي الرئاسة، إلا أن الحزب ظل يحمل "ختم" اليمين المتطرف، ولم يفارق "ظل" مؤسسه والدها. وقد أظهر سلوك العديد من مرشحي حزب الجبهة الوطنية خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة مدى هشاشة التطوير للحزب والذي لم يتجاوز كونه قشرة خارجية.
وقد استمرت ماري في نهج شيطنة مواقف والدها حتى قيل إنه أكبر انقلاب سياسي عائلي من نوعه. وتم إيقاف جون ماري لوبان عن منصبه، وتمت إزالة صورته من الموقع الإلكتروني للحزب الذي شارك في تأسيسه عام 1972. وأصبحت الأزمة عميقة والتمزق العائلي حقيقي. ويقال إن لوبان لم يتحدث مع ابنته بعد ذلك. وتعتقد مارين لوبان أن والدها يريد "الإضرار بالجبهة الوطنية"، بينما ذهب لوبان إلى حد التبرؤ من ابنته، قائلا إنه "يشعر بالخجل من أنها تحمل اسمه". كما شعر بأنه منبوذ بعد ذلك ليس فقط في الحياة السياسية بل داخل عائلته منذ شككت بناته في أهليته ورجاحة عقله وصدر لهن حكم بذلك. ومات لوبان حزينا يائسا بائسا!
Comments