bah النارُ الآكلة، من مدينة الملائكة إلى أقاصي الأرض - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

النارُ الآكلة، من مدينة الملائكة إلى أقاصي الأرض

01/22/2025 - 00:23 AM

Prestige Jewelry

 

 

 

الأب الدكتور نبيل مونس *

 

أكتب وأمامي صُور النّار الملتهبة، وكأنّها أنيابٌ تلتهم جسدَ الأمّ الحاضنِ كلّ المخلوقاتِ، جسدُ الأرض ممتدٌ من أقاصي كاليفورنيا إلى أقاصي جنوب لبنان، مرورًا بخطوط العرض والإستواء، عابرًا البحار والمحيطات الهائجة والهادئة؛ ماذا يحدُث من حولنا؟ ألا يكفي غضبُ الإنسان؟ أم أنّ الإنسان هو المفتعِل؟ هو هو أيضًا إن صعدنا شمالًا نحو الأقطاب أم غُصنا في عالم الصّحراء نحو الجفاف والجفاء. الغضبُ نارٌ آكلة. ما أصعب الحياة عندما تبرُد القلوب، وتتغالظ الرّقاب. لماذا يسلّم الأخ أخاه؛ كثُرتِ الفخاخُ والمنتصِر واحد، الموت، الدّمار.

لماذا لا نتعلّم بعد منَ التّاريخ، لست أدري كيف يفسّرون لكمُ الأحداث ويكتبون لكم عنِ الآثار والحروب. ألم نعلم ونتعلّم، ألم يأتِ اليوم الذي نعي كلّنا فيه أنّ كلّ المنتصرين، ينتصرون إلى حين وأنّ الشعوب والحضارات والبلدان والإمبراطوريات في حالة دائمة من الحياة والموت، من الزوال والإنحلال، ولن يستقيم ويبقى حتّى الرّوح، النّور والكلمة، إلّا تلك الشّعلة التي خرج منها كلّ شيء، وهي القادرة على أن تلتهم حتّى الصّخر والمادّة والأرواح المنظورة وغير المنظورة، والتي وإن تآكلت إنّما لا تنتهي.

لم يكن لها بداية وليس فيها نهاية ومنها صارت لنا الحياة والدفء والنّور، إنّها على حسب تعبيرنا الضّعيف والإنساني، نسمّيها بالكلمة الفانية "المحبّة" والله محبّة ولولاه لما بقي أحد يُخبر عنِ الإنسان والتّاريخ والتطوّر. إنّه الشّعلة، النّور، إنّه الشّعلة الدّائمة الأزليّة، الصّغيرة الغير فانية، شعلة المحبّة التي تُسامح، وتُسافر وتسبح في خلايا الأرض، فتزرع الحبّ والخير والإنبعاث.

شعلة الرّحمة التي تسقي الينابيع من دموعها وتجفّف دموع الإنسان من نورها. إنّها شعلة الرّحمان الرّحيم الذي لولاه لا شيء يستقيم. من الموت يُقيم. إنّها الشعلة التي تنجّينا من نار الشيطان الرّجيم، إلى أبد الآبدين.

2 - - أكتب وأمامي الآن تلك الشعلة المخفيّة، الصّغيرة الملتصقة بالقربان؛ شعلة الشّمعة المضيئة أمام مذبح الرّب، حيث جئت إلى الصراخ، إلى الصّلاة والدعاء لشعبي في لبنان، لأولاد رعايانا في كاليفورنيا، للذين خسروا ممتلكاتهم وخرجوا إلى الشوارع والملاعب تاركين وراءهم كلّ ما اختزنته ذكرياتُهم وأعمالهم وذكاؤهم ... كلّ شيء عاد إلى التّراب، إلى الغبار، إلى الرّماد الأوّلي. "إنّك من التّراب وإلى التّراب تعود."

كلامَ الحقّ أراه اليوم أمامي فوق كلّ الصّور، إن نظرتُ من الشبّاك أراه عند قدميّ، إن فتحتُ التلفاز أراه في صُور لبنان وأوكرانيا كيف تلتهم النّار كلّ شيء. هلِ النّار هي نار الأخوّة أم نارٌ عدوّة، من نار المدفع إلى نار اللّسان ونار النيران، حقيقة واحدة "النار تكوي محلّها". على الإنسان أن يرحم أخاه الإنسان، أينما كان وفي كلّ الأزمان.

النارُ النبوّية:

الكتاب المقدّس يُحدّثنا عن نار الخلق الأوّلي، عنِ التقدمة الأولى نارِ هابيل، عنِ النّار الموسويّة والجدعونية والداوديّة وغيرها. ولكنّني أحبّ أن أتوقّف عند نار إيليّا النبيّ، لأنّها النّار النبويّة "والذي يُجيب بنار فهو الإله" (سفر الملوك الثالث 18/24). علاوةً على ذلك، إنّها النّار الحقيقيّة، نار التحدّي الإلهيّ: "فتقدّم إيليّا إلى جميع الشّعب وقال لهم إلى متى أنتم تعرجون بين الجانبيْن إن كان الرّب هو الإله فاتبعوه وإن كان البعل إيّاه فاتبعوه" (سفر الملوك الثالث 18/21).

ما أعظم هذا الكلام وما أحوجه اليوم لعالمنا الضّائع بين وثنية جديدة وبين إرهاب ذي طابع دينيٍّ جديدٍ. والأخوة والأخوات أبناء هذا الجيل، وخصوصًا وديعو القلب "يعرجون بين الجانبيْن" أو بعض الأذكياء والمتذاكين يرقصون على الحبليْن أو بعض الحكماء يضعون قدمًا في البور وقدمًا في الحقل أو بعض البهلاويين الإنتهازيين يقفون على كرسييّن.

ما أجملها من أمثولة تاريخيّة روحيّة، يمكن الاستفادة منها لحل الأزمات الدينيّة والسياسيّة المتديّنة، وخصوصًا في صراع الأديان أو صراع الحضارات. لا تقتل أخاك باسم الله. هذا ما صرخ له الضّمير الأول الضمير الحي في قلب هابيل. فلنسمع صوت إيليّا مرّة ثانية.

فلنصغِ إلى الصّوت النبويّ ويا ليت صوتي يُمكن أن يسمعه أبناء الآلهة العربيّة أوِ الغربيّة، أحفاد الشرق أم الغرب، أن يضعوا السّيف في غمده، وليأتِ الجميع إلى جبل لبنان وهناك فلنرفعِ التّقدمة ولتُذبح الثيران ولتكن الكلمة للنار نار السّماء، لا نار المدفع والصاروخ، نارُ الله لا نارُ الإنسان، هنا التحدّي الحقيقيّ، هنا تقبع مقولة الإيمان. هل سيتكلّم الله؟ لا أظن لأن الله تكلّم منذ الخلق منذ الوصية الأولى وهو رفعها للإنسان كلّ الإنسان أينما كان "لا تقتل".

أيّها الأخوة القادة، وخصوصًا أبناء الإيمان بالله لا تتحاملوا على الله ولا تحاربوا عنه. إنّه قادر على أن يُسقط النّار من السّماء لإعلان الحقيقة من دون أن يُقتل أحدٌ. اعقلوا وآمنوا، ليس هناك إيمان أفضل من إيمان إلّا بالتقوى. فلْنَخَفِ الله ونحترمِ الإنسان فتبقى الحياة. عندئذ نحيا إلى الأبد.

النار الروحيّة:

على ما يتّضح من الكُتب فالنّار الرّوحية أُعلن عنها. ومنها ما تنبّأ به النبيّ يوئيل: "وسيكون في الأيّام الأخيرة يقول الله إني أفيض من روحي على كل بشر... وأعمل عجائب في السّماء من فوق وآيات على الأرض من أسفل كما دمًا ونارًا وأعمدة من دخان (رسل 2/17-19)." كمالُ النبؤة تحقق عند حلول الرّوح في يوم العنصرة حيث ظهرت لهم "ألسنة منقسمة كأنّها نار فاستقرّت على كلّ واحدٍ منهم". إنّها الحدث الأخير، إنّها النّار الجديدة التي انتظرها العالم وتنبّأ بها الأنبياء، إنّها الرّوح الجامِعة، الغافِرة، المعزِّية، المدافِعة الحاضِنة، المقدّسة.

إنّها النّار التي رآها موسى ولم يقترب، هي تشتعل ولا تأكُل، تلتهبُ ولا تحترق، تُضيء ولا تُعمي، تنطلق من شجرةِ الحياة وهي ليست منها، تُلامسها فلا تُفنيها، تتأجّج في فروعها ولا تُميتها. الشجرةُ ليست طعامًا لها، والنّار لا تستقرّ فيها. ما هذا السرّ العظيم؟ ما هذه المقولة النبويّة؟ ما هي هذه النّار الروحيّة؛ مّن أشعلها في العالم.

هل هي الشُّعلة الأخيرة؟

أجل، وأقول إنّها شعلة الرّوح ولا أحد يعطي روحَه إلا مرّة واحدة. حقًا إنّها الشّعلة الأخيرة، شعلة المسيح، الخط الأخير أن نكون أو لا نكون، أن يحيا العالمُ أو أن يسقُط، أن يكون الرّوح والنّار، أم أن تكون الصّحراء والفناء. الله شاء أن يجمع العالمَ بناره الرّوحيّة. هل يُعقل أنّ الإنسان يلعبُ بالنَار حتّى بالنّار الإلهيّة؟ ألم يتعلّم بعْد ألا يُحرق أصابعه، أو يرمي أخاه في أتون من نار. أقولها ولو صعبت مقولتها. مَن أخذ بالنار أخاه فبالنار يؤخَذ. ونار الرّوح لا تُطفأ.

النّار الجهنّميّة:

أعترف بأنّ هذا الموضوعَ قضَّ مضاجع طفولتي وأقلقَ نموَّ حياتي وشلّ انطلاقة شبابي، فأطبَقَ على مقدّراتي، فتكسّرت أحلامي حطامًا وجُمعت معًا في قعر حفرة لتُصبح مأكلًا لنار جهنّميّة مخفيّة دُفنت في ظلام ضمائرِ البشر، من كثرة وحشيّة الإنسان ودموّية رغائبه. عندما سمعتُ للمرّة الأولى أنّ هذا المصير من قِبَل التّصاوير أوِ التعابير حالةٌ من حالات الإنسان النفسيّة. وإنّما هذه النّار ما هي إلّا تعبير رمزيٌ وربَّما نبويٌ زُرع في عقول البشر لِيَحُدّ من جنوحهم نحو الشرّ أو ليصدّ جنونهم وخصوصًا عندما تتعاظم قوّتهم وتتفاقم خطيئتهم. لقدِ امتلأ قلبي بالأمل، سُحرتُ بفكرة الخلاص؛ المحبّة لا الخوف، النّور لا النّار، الحياة لا الموت.

إنّه منطق ساحر. الإنسان يقود مركبته إلى شاطئ الأمان. ما أسهلَ أن يخدعَ الإنسان نفسه أو أن ينصب فخًا لأخيه الإنسان. الإغراءات كثيرة، الإنسان متعطّش، ألم يحِن بعْد زمن الوعي؟ ألم تُقرع بعْد ساعة اليقظة؟ لماذا نرفض الواقع ولا نقبل الحقيقة.

أين هي؟ مَن هي؟

إنّها أمام أعيننا الآن، لم نرتَح حتّى الآن من محاربتها، إنّنا من الرماد وإلى الرماد نتحوّل. إنّنا مأكل لنارٍ جهنّميّة. وحدها اليد الحب الإلهيّ، الكفّ الإلهيّ قادر على أن يرفع عنّا هذه النّار المسلطة. لمّن أُعدّت إذًا؟ صدق الله العظيم، إنّنا أمام الرّؤية الحقيقية، لنسمع، لنرى.

أكتب لكم فاقرأوا يا أبناء الأرض وأحفاد آدم. "مَن غلب يرث الحياة وأكون له إلهًا ويكون لي ابنًا. أمّا الجبناء وغير المؤمنين والأوغاد والقَتلة والفجّار والسّحرة وعبدَة الأوثان والكذّابون جميعًا، فنصيبهم في البحيرة الملتهبة بالنارِ والكبريت" (الرؤيا 21/7).

 

* مؤسس اللجنة اللاهوتية للسلام في لبنان وراعي كنيسة سيدة لبنان المارونية في ولاية اوكلاهوما الأميركية

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment