واشنطن – السفير مسعود معلوف
الجميع يعرف أن أولى أولويات الولايات المتحدة في سياستها الشرق أوسطية الحديثة هي إسرائيل، وقد رأينا التأييد التام والمطلق لإسرائيل في حربها على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أوكتوبر 2023 من قبل الرئيس السابق جوزف بايدن بالرغم من خلافاته المتعددة مع رئيس الوزراء الارائيلي بنيامين نتنياهو والإهانات التي كان يوجهها هذا الأخير للرئيس الأميركي عبر رفضه بصورة متكررة لمطالبات بايدن بوقف إطلاق النار وفتح المعابر وحماية المدنيين.
وأثناء ترشح دونالد ترامب للرئاسة للعودة الى البيت الأبيض، رأينا وسمعنا تصريحاته المؤيدة لإسرائيل والتي كان يدعو فيها نتنياهو الى "إنهاء العملية" واجتياح قطاع غزة للقضاء التام على حركة حماس.
أما الأولوية الأميركية الثانية في المنطقة فهي إيران بعد أن بدأت بتخصيب اليورانيوم والسعي الى تطوير ترسانتها النووية، ما أثار اهتمام الدول الغربية بهذه الأوضاع، وأدى الى مفاوضات بين إيران ودول مجلس الأمن الخمس الدائمة العضوية زائد ألمانيا، وتوقيع ما عرف بالاتفاقية النووية التي وَضعت حدا للنشاطات الإيرانية النووية لقاء رفع بعض العقوبات عن إيران وذلك في منتصف العام 2015 أثناء رئاسة باراك أوباما. ولكن الرئيس ترامب، في ولايته الأولى، سحب الولايات المتحدة من هذه الإتفاقية وأعاد فرض عقوبات قاسية على إيران.
والآن بعد أن عاد ترامب الى البيت الأبيض، بدأ ولايته الجديدة بسلسلة من المواقف، سواء في الأمور الداخلية أو الشؤون الدولية، مطلقاً تصريحات مفاجئة ومثيرة حول قطاع غزة وإيران.
تصريحات ترامب حول غزة:
مباشرة بعد فوزه في الإنتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر الماضي، أعرب ترامب عن اهتمامه القوي بوقف إطلاق النار في غزة مهددا بأن عدم تحقيق ذلك وإطلاق سراح الرهائن قبل تسلمه الرئاسة "سيشعل الجحيم في المنطقة". وأثناء المفاوضات التي كانت جارية في الدوحة في ذلك الوقت، أوفد مبعوثه الى الشرق الأوسط "ستيف ويتكوف" الى كل من إسرائيل والدوحة للضغط على المفاوضين للوصول الى اتفاق لوقف إطلاق النار قبل دخوله البيت الأبيض في العشرين من يناير. وقد تم التوقيع على هذا الإتفاق عشية ذلك التاريخ.
بعد تسلمه الرئاسة وفي خضم اهتماماته الجمة وتوقيعه على مئات القرارات الرئاسية التنفيذية في شتى الأمور التي كان وعد بتنفيذها أثناء حملته الرئاسية، لم يتأخر الرئيس ترامب في إصدار التصريح تلو الآخر عن الحرب الدائرة في غزة وتأييده التام لإسرائيل، ولكن المواقف المفاجئة جاءت مؤخراً بعد وصول نتنياهو الى واشنطن بتاريخ الثاني من الشهر الجاري للقاء ترامب ومسؤوليين أميركيين في الكونغرس والإدارة ومنظمات مؤيدة لإسرائيل.
تكرار الرئيس ترامب إعلان موقفه لجهة تفريغ قطاع غزة من سكانه ونقلهم الى مصر والأردن الذي سبق أن أطلقه منذ فترة قصيرة وتم رفضه من الأردن ومصر وطبعا من الفلسطينيين، أكد للعالم ان تصريحه الأول لم يكن فكرة عابرة، بل خطة يود تنفيذها وتحقيقها. وأثناء استقباله لنتنياهو في البيت الأبيض في الرابع من هذا الشهر، تحدث مجدداً عن هذا الموضوع، وبحضور وسائل الإعلام، أكد أن سكان غزة لا يمكنهم البقاء في هذه الأرض المدمرة وأن الأبنية التي ما زالت قائمة ستنهار قريباً، شارحاً أن الغزاويين يستطيعون الإنتقال الى دول أخرى حيث يمكنهم السكن في منازل لائقة، وسيتمتعون بحياة أفضل لدرجة أنهم لن يقبلوا بعد ذلك بالعودة الى غزة.
وفي رده على أسئلة الصحافيين، قال أن الولايات المتحدة ستسيطر على القطاع وتمتلكه، كما جدد تأكيده لمخطط إخراج الفلسطينيين من غزة واستقرارهم في مصر والأردن وفي دول أخرى ترغب باستقبالهم على حد قوله، دون أن ينفي احتمال إرسال جنود أميركيين الى المنطقة، وفي هذا الموقف المستجد تغيير جذري للسياسة الأميركية في المنطقة التي تدعو منذ عقود الى حل الدولتين.
من الضروري التوضيح ان ترامب رجل صفقات، خاصة صفقات عقارية، ولا يستبعد كثيرون أنه يطمح الى السيطرة على القسم الساحلي من القطاع لجعله منطقة سياحية وبناء فنادق ومنتجعات تماماً كما كان صهره جارد كوشنير قد صرح منذ حوالي سنة أن هذه المنطقة جميلة وتصلح للإستثمار السياحي وعلى اسرائيل تهجير الفلسطينيين منها. فهل إن ترامب يستعمل الآن القوة الأميركية والتحالف مع إسرائيل لتحقيق هذه الخطة عبر وضعها في إطار سياسي عالمي؟
خلافاً للترحيب الإسرائيلي خاصة من قبل الأحزال اليمينية، تصدت معظم الدول لمشروع ترامب بما فيها الأمم المتحدة والدول الحليفة لأميركا مثل بريطانيا وفرنسا والمانيا، كما أن الدول العربية رفضت هذه الخطة رفضا قاطعاً، والمملكة العربية السعودية بالذات أكدت بحزم واضح أنها لن تطبع علاقاتها مع إسرائيل قبل إقامة دولة فلسطينية، وفي ذلك ضربة قوية لمشروع ترامب الذي يسعى الى تطبيع سعودي-إسرائيلي في إطار اتفاقات أبراهام.
تصريحات ترامب حول إيران:
قبيل استقباله لنتنياهو في البيت الأبيض، وقع ترامب على قرار رئاسي يقضي بعدم السماح لإيران بامتلاك السلاح النووي كما أكد أيضا على عدم السماح لإيران بتصدير نفطها وألغى الإعفاء الممنوح سابقا للعراق لاستيراد النفط الإيراني، ولكنه في الوقت نفسه أعرب عن استعداده إجراء مفاوضات مع إيران وصولاً الى علاقات طبيعية مع هذه الدولة.
بالرغم من التناقضات الواضحة في هذه المواقف إذ أنه انسحب في ولايته الأولى من الإتفاقية النووية وهو يقترح الآن اجراء مفاوضات جديدة للغاية نفسها، ركز بعض المراقبين على التوقيت الذي صدر فيه هذا القرار قبل ساعات محدودة من استقباله نتنياهو في البيت الأبيض، إذ وجدوا فيه رسالة واضحة لرئيس الوزراء الإسرائيلي أن الولايات المتحدة لن تنجر الى حرب مع إيران يسعى الى شنها نتنياهو منذ فترة، إذ أن الرئيس الأميركي يفرض على إيران شروطاً قاسية جدا ولذلك ليس هنالك من داع لشن حرب عليها. وقد استطاع الرئيس السابق بايدن تجنب استدراج الولايات المتحدة للدخول في مثل هذه الحرب بالرغم من محاولات نتنياهو المتكررة.
وعند إعلانه هذه المواقف القوية ضد إيران، صرح أيضا الرئيس ترامب أنه إذا حاولت إيران اغتياله، فإنه سيدمرها ويمحوها من الوجود. وقد لفت هذا التصريح بعض المراقبين الذين أعربوا عن خشيتهم أن تقوم المخابرات الإسرائيلية المعروفة بقدراتها التقنية والإستخبارية، بتنظيم عملية سرية وكأنها محاولة اغتيال ترامب، ونسب هذه العملية لإيران كي يقوم ترامب عندئذ بعمليات عسكرية مشتركة مع إسرائيل ضد المنشآت النووية الإيرانية التي يود نتنياهو تدميرها بالكامل والتخلص منها نهائياً.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو شخصية غير نمطية، معروف بتقديم مصلحته السياسية والشخصية على أية مصلحة أخرى، ويعتبر نفسه ليس محور الولايات المتحدة فحسب، بل محور العالم بأسره، وهو يسعى الى ترك بصماته في شتى الأمور الدولية. وفي الوقت نفسه، هو يتمنى الحصول على جائزة نوبل للسلام التي سبقه اليها الرئيس الأسبق باراك أوباما، ولذلك نراه يحاول إعطاء صورة عن نفسه أنه رجل سلام يود إيقاف الحروب الدائرة بدءاً بالحرب الروسية - الأوكرانية، والحروب الدائرة في الشرق الأوسط، ولذلك من الصعب الإعتقاد أنه سيشن حرباً على إيران حتى لو استدرجه إليها حليفه نتنياهو.
*سفير متقاعد
Comments