ألسفير د. هشام حمدان
نحن من الذين طالبوا دائما بعلاقات ممتازة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة. ولكنّنا ندرك أنّ قيام مثل تلك العلاقات، يعتمد كثيرا على رؤية الأطراف المعنيّة لمفهوم العلاقات الجيّدة.
بالنسبة لي، أنا أنظر إلى العلاقات الجيّدة من منطلق إيماني بنظام الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة. هذا النظام، وضعته الولايات المتّحدة نفسها كردّ على الحرب العالميّة الثّانية. يقيم النّظام قواعد متّفق عليها في نظام العلاقات الدّوليّة، لضمان قيام قيام علاقات جيدة بين الدول. أهم هذه القواعد: إلإحترام المتبادل للأطراف المعنيّة كلّ للآخر، وعدم تدخّل أيّ منهما في الشّؤون الدّاخليّة للطّرف الثّاني، وتسوية أيّ خلاف بينهما بالطّرق السّلميّة، وخاصّة من خلال اللّجوء إلى الهيئات والمؤسّسات الدّوليّة لتسوية مثل ذلك الخلاف.
كان لبنان دولة لها خاصّيّتها الدّقيقة في المنطقة بالنّظر إلى وجود أغلبية مسيحيّة مهمّة فيه، وسط غالبيّة إسلاميّة ساحقة في دول المنطقة الأخرى. إعتمد لبنان منذ استقلاله المفاهيم الغربيّة بكلّ أشكالها، ألسّياسيّة، ألثّقافيّة والإقتصاديّة. إعتمد دستوره مفاهيم النّظم الدّيمقراطيّة الغربيّة، فكان أبرز دولة في المنطقة لجهة حماية الحرّيّات العامّة، وحرّيّة الإعلام، وحرّيّة العمل للجمعيّات الأهليّة والأحزاب، وممارسة الدّيمقراطيّة التّمثيليّة من خلال النّظام البرلماني وتبادل السّلطة. كان القضاء فيه حرّا ومستقلا.
كان الإقتصاد يعتمد نظام السّوق، وحرّيّة النّشاط الإقتصادي للفرد، ويمنح القطاع الخاصّ دورا أساسيّا في حركة الإقتصاد. تحوّل لبنان مركز إقليميّا للمصارف والشّركات العملاقة الغربيّة والأميركيّة. كما شكّل لبنان دائما جسرا بين الحضارتين الغربيّة والشّرقيّة، فأفسح أمام الإرساليّات الدّينيّة الأوروبّيّة والأميركيّة التي أغنت البلاد بمعاهد أكاديميّة راقية، أهمّها الجامعة الأميركيّة في بيروت. كلّ ذلك جعل للبنان مكانة خاصّة عند المسؤول الأميركي، فقامت بين البلدين علاقات مميّزة.
من المؤسف أنّ هذا الأمر لم يستمرّ طويلا. فالحرب الباردة بدّلت كثيرا من المقاربة الأميركيّة للعلاقات الدّوليّة، بما في ذلك علاقتها مع لبنان. طغى هاجس مواجهة الشّيوعيّة، وتمدّد نفوذ الإتّحاد السّوفياتي، على السّياسة الخارجيّة الأميركيّة. ترك هذا الأمر، أثره على العلاقات الأميركيّة العربيّة، لا سيّما مع قيام حلف بغداد.
لم يدرك العرب عمق الدّور الأميركي الصّاعد بعد الحرب العالميّة الثّانية، ألطّاغي على قوى الإستعمار. ولم يعيروا اهتماما للتّحوّل السّياسي لتلك الدّول، وخاصة بريطانيا محاباة للسّياسة الأميركية. عارضوا بشدّة حلف بغداد. تحوّلت قضيّة فلسطين إلى جزء من سياساتهم المعلنة ضدّ الإستعمار. غلبت الشّعبويّة، ورفعت دول عربيّة مهمّة على رأسها مصر، شعار القوميّة العربيّة الثّوريّة، ونحت نحو الإتّحاد السّوفياتي بحجّة دعمه لمواقفهم ضدّ الإستعمار.
ظلّ لبنان قريبا من واشنطن. وأصرّ في إطار النّزاع العربي الإسرائيلي، على اتّفاق الهدنة مع إسرائيل لعام 1949، كي يبعد نفسه عن أيّ منزلق عسكري لهذا النّزاع. لكنّه تحوّل بسبب نظامه الدّيمقراطي، إلى ساحة صراع سياسي للأحزاب بين مؤيّد للقوميّة العربيّة الثّوريّة، ومعارض لها. إعتمدت السّياسة الأميركيّة في لبنان ألنّشاط المخابراتي المعادي للشّيوعيّة، سواء في داخله، أو في خارجه.
إعتمد الإتّحاد السّوفياتي بالمقابل، ذلك الأسلوب. كان هذا الأمر يفترض شراء الذّمم. تمكّنت الولايات المتّحدة وكذلك موسكو، من كسب العديد من العملاء سواء من العامّة أو من الإعلام أو من السّياسيّين. فقد المسؤولون اللّبنانيّون حسّ العلاقة الوطنيّة المخلصة مع واشنطن أو مع موسكو، وتحوّلوا إلى تجّار يبيعونهما المواقف مقابل الخدمات والمال. من هنا دخلت علاقة واشنطن مع لبنان مفهوم الدّولة القوميّة، أي تغليب المصلحة القوميّة الأميركيّة على تلك العلاقات.
منذ ذلك الحين تعتمد علاقات واشنطن بلبنان مفهوم المصلحة القوميّة لواشنطن، ويستمرّ التّعاون مع العملاء لخدمة هذه المصلحة.
Comments