رامز الحلبي
الساعةُ تدقُّ… عشرَةُ أيامٍ فقط تفصلُ سوريا بينَ خيارين:
– إما حكومةٌ تَغادرُ كالتي قبلها، تاركةً وراءها أسئلةً بلا أجوبة.
– أو حكومةٌ تَصنعُ تاريخاً، فتُعلّمُ من يأتي بعدها: السياسةُ ليستَ وعوداً بالجنة، بل إقرارٌ بالواقع، ومساءلةٌ تبدأُ بالاعتراف.
قبلَ مئة عام، كتبَ المفكرُ عبد الرحمن الكواكبي: "الاستبدادُ أشدُّ ما يكونُ عندما يُغطّي نفسَه بستارِ الشعب". اليوم، أمامَ حكومة تصريف الأعمال السورية فرصةٌ ذهبية لتمزيقِ هذا الستار. الاعتذارُ ليسَ نهايةَ المطاف، بل بدايةٌ لعهدٍ يُدركُ أنَّ الشرعيةَ لا تُورَثُ بالصمت، بل تُكتَسَبُ بالصدق.
في كانون الأول/ديسمبر الماضي، حكومة تصريف الأعمال السورية التي عينت مباشرة بعد سقوط النظام السورية، والتي كلف، محمد بشير، برئاستها، وقفَت أمام الكاميرات لتعلنَ عن "خطة إنقاذ استثنائية". كان اللقاءُات مُفعمة بــ "الطمأنينة": "خلال شهرين، سنصل إلى 8 ساعات كهرباء يومياً".
كان الشعب السوري يرنو إلى أمل متجدد، وإلى وعودٍ كانت بمثابة ضوءٍ في نهاية النفق المظلم. وعد الـ 8 ساعات كان بمثابة بلسمٍ لجراح المواطنين الذين طالما عانوا من انقطاع التيار الكهربائي. لكن مع مرور الأيام، تغير وعد الكهرباء؛ إذ لم يعد "شهران" مصحوبين بـ 8 ساعات، بل أصبح الوعد يمتد إلى سنة كاملة، مما أثار تساؤلات حادة حول قدرة الحكومة على تحقيق ما أعلنته.
ولم يكن هذا هو الحال الوحيد، إذ كانت هناك وعود أخرى مثيرة للجدل، أبرزها وعد زيادة رواتب الموظفين بنسبة 400%. فكيف لا يكون هذا الوعد بمثابة نبض جديد في حياة العاملين الذين استغلهم النظام السابق؟ ورغم ذلك، لم تتحقق هذه الزيادة حتى الآن، ولا يزال الموقف غامضًا حول موعد التنفيذ الفعلي لهذه الزيادة. وكأن التاريخ يعيد نفسه، خصوصا أن حكومات النظام السابقة كانت تنتهج ذات السياسة في إطلاق الوعود.
السؤالُ الذي يطارِدُ الشارع: هل كان الوعدُ مجردَ مسكِّنٍ مؤقت، أم أن الحكومة وقعت في فخٍّ لم تستطع الخروج منه؟ فكانت الوعود كمن يُمسك بسراب. وبات ملايين السوريين يعيشون على هامشِ وعودٍ تحوّلت إلى ذكريات مُرّة.
الرياح بما لا تشتهي الحكومة
في عالم السياسة، يُعزى الفشل أحيانًا إلى الظروف الخارجة عن الإرادة، حيث تقول الحكمة الشعبية: "لا يُغلق السيل صدوع الجبال". ربما لم تجرِ الرياح كما تشتهي الحكومة من حيث الوعود، فقد واجهت تحديات اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية جعلت من تحقيق الوعود أمرًا شبه مستحيل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن للحكومة التي على مشارف الانتهاء من ولايتها أن تسجل موقفًا تاريخيًا يُضيء درب الحكومات القادمة؟
الخبراء والمحللون السياسيون يرون أن الفرصة لا تزال قائمة لصناعة سابقة تاريخية في السياسة السورية، سابقة تقوم على الشفافية والمحاسبة. تخيلوا معي لحظةً تاريخية يكون فيها الوزراء يجتمعون في مؤتمر صحفي شفاف، لا تخفي فيه الحكومة شيئًا عن الشعب، لا يبخلون بتفصيل ما تحقق وما لم ينفذ، بل يواجهون النقد بصدر رحب ويقدمون اعتذاراتهم الصادقة عن ما لم يكن في الحسبان.
الإعلامي الدكتور محمود الحمود، لفت بذلك إلى المَثلُ السوري القديم:"فَرجي عَذرك ولا تُفرجي بخلك". مبينا أن الحكومةُ اليوم أمام خيارين: إما أن تُغادرَ بصمتٍ كسابقاتها، فتترسخُ ثقافةُ اللامساءلة، أو أن تُقدّمَ نموذجاً يُعيدُ للسياسةِ اعتبارها.
"الشفافية ليست ضعفاً"، يقولُ الخبير الاقتصادي علي درويش، الذي عمل مستشاراً لثلاث حكومات سابقة. "لو أعلنت الحكومةُ تفاصيلَ تعثُّر مشروع الكهرباء – مثلاً – لَفهِمَ الناس أن المشكلة ليست في الإرادة، بل في العقوبات الدولية أو نقص التمويل. لكن الصمت يُحوِّل الفشلَ إلى شائعاتٍ تأكلُ مصداقية الدولة".
مَؤتمرٌ صحفيٌّ يكتب التاريخ
ماذا لو خرجَ الوزراء العشرةُ، قبل أيامٍ من الرحيل، في بثٍّ مباشرٍ إلى الشعب؟
ليسَ مؤتمراً للتباهي بالإنجازات، بل للاعتراف بالحقائق: لماذا تأخرت زيادة الرواتب؟ أين ذهبت الأموال المخصصة لمحطات الكهرباء؟ ما العقبات الخارجية والداخلية التي واجهتها الحكومة؟
ثم الاعتذار العلني: "نعتذر لأننا لم نُدرك حجم التحديات… نعتذر لأن آمالكم اصطدمت بواقعٍ معقّد…". كلماتٌ كهذه قد تفتحُ جراح الماضي، لكنها تُطهّرُها.
ثم تتطرق إلى تسليمُ الملفات عبر نشرُ تقارير مفصلة لكل وزارة، تُسلّمُ كــ "إرثٍ مرجعي" للحكومة القادمة، حتى لا تبدأ من الصفر.
هذا السيناريو ليس خيالياً. ففي 2009، قدمت حكومةُ اليابان اعتذاراً رسمياً عن فشلها في تحقيق نموذجٍ اقتصادي واعد، مما مهّدَ لاحقاً لإصلاحاتٍ جذرية. الاعتذارُ لم يُضعِفها، بل عزّز ثقةَ الناخبين.
لو كنتُ مكان البشير وحكومته، كان اقتراحي أن يُعلن قبل مغادرتهم عن موقف صريح وواضح يضع حجر الأساس لمبدأٍ جديد في السياسة السورية. إن الخروج بمؤتمر صحفي شفاف يُعد خطوة جريئة، لكنها في آن واحد ضرورية لبناء الثقة مع الشعب. يجب أن يُفصح الوزراء عن ما حققوه من إنجازات رغم التحديات الكبيرة التي واجهوها، وأن يعترفوا بما لم يتحقق من وعود، موضحين الأسباب الحقيقية وراء ذلك.
هذا الاعتراف العلني لن يكون مجرد تصريحات تقليدية أو شعارات تتردد على مسامع الناس، بل سيكون رسالة واضحة تقول: "نحن بشر، وقد خذلناكم بإطلاق وعود سريعة، ولكننا تعلمنا من أخطائنا". الاعتذار من الشعب بعد أن يبينوا العذر يُعد خطوة جريئة؛ خطوة تُظهر الإنسانية في قلوب المسؤولين وتعيد الثقة المفقودة في النظام السياسي. فكيف لا يكون الاعتذار صادقًا إذا كان مصحوبًا بتفسير وشفافية في عرض المستجدات والتحديات؟
إن الخطوة التي المقترحة ليست مجرد إجراء شكلي أو محاولة لتصحيح الصورة، بل هي تأسيس لمبدأ أساسي يجب أن تُعتمد عليه الحكومات السورية القادمة. في زمن تتداخل فيه المصالح السياسية مع الحياة اليومية للمواطن، يصبح من الضروري أن يكون هناك حوار مفتوح بين الحكومة والشعب. إن الشفافية في عرض الإنجازات والإخفاقات ستؤسس لعلاقة ثقة لا تُقدر بثمن، وسيكون هذا المبدأ دافعًا للمحاسبة والمساءلة في المستقبل.
إن التجربة السورية، التي عاشت فتراتٍ من الكتمان والتستر، تستدعي أن يكون المستقبل مختلفًا. يجب أن نتعلم من التجارب السابقة بأن الشعب يستحق أن يعرف حقيقة ما يجري خلف الكواليس، وأن يُسمح له بأن يكون شريكًا في صنع القرار. إن الخطوة التاريخية التي يمكن للحكومة الحالية أن تسجلها قبل مغادرتها، هي تلك الخطوة التي تضع حدًا للعصور التي كان فيها الشعب مجرد متفرجٍ على أحداث السياسة دون أن يكون له صوت يُسمع.
لماذا قد ترفض الحكومةُ هذه الخطوة؟
السببُ ليسَ غامضاً، فالثقافة السياسية السورية تَعتبرُ الاعترافَ بالفشلِ "هزيمة". لكنّ كُتّاباً وسياسيين يُجادلون بأنَّ اللحظةَ التاريخية تتطلب جرأةً مختلفة. الصحفي عمر العبد الله، الذي يتابعُ الشأن السوري منذ عقدين، قال: "الشعبُ تعبَ من سماعِ سنُصلح الأخطاء بعد كل دورة فشل. المطلوبُ الآن هو كشفُ الأخطاء نفسها. فقط حينَ نرى رئيسَ وزراءٍ يقول أخطأنا، سنبدأ ببناءِ عقدٍ اجتماعي جديد".
قد يتساءل البعض: هل يمكن للحكومة الحالية، رغم فشلها في تحقيق وعودها الكبيرة، أن تُحدث تحولًا جذريًا قبل انتهاء ولايتها؟ الإجابة تكمن في الجرأة على الاعتراف بالأخطاء وتقديم الحلول بدلاً من الأعذار. فحين يكون القائد على استعداد للاعتراف بأن هناك نقاط ضعف وفشل، فإن ذلك يفتح المجال للحوار ويشجع المسؤولين على العمل بجدية أكبر في المستقبل.
إن مثل هذه الخطوة لن تكون سهلة، فقد يتعرض المسؤولون للنقد اللاذع من المعارضة التي اعترضت على التشكيل الحالي، وحتى من داخل صفوفهم، لكن الشجاعة في مواجهة الحقيقة هي ما يُميز القيادة الحقيقية. قد يُقال إن السياسة ليست ميدانًا للاعتذارات، لكن الشعوب تتوق إلى النزاهة والصدق أكثر من الوعود الفارغة. إن الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه ليس ضعفًا، بل هو دليل على النضج السياسي والإنساني.
ماذا لو حدثَ ذلك؟
يعتبرُ البعضُ أن الاعتذارَ سيكونُ "اعترافاً رسمياً بالإفلاس"، مما يُضعفُ هيبة الدولة. لكنَّ هذا المنطقَ عفا عليه الزمن في عصرِ الشبكات الاجتماعية، حيثُ الجميعُ يرى الفشلَ عبرَ هاتفه.
لكن وبالمقابل، الاعترافُ سيُعيدُ جزءاً من المصداقية، حتى لو لم يُغفرْ للوزراء. الشفافيةُ ستُصبحُ سابقةً يُحتكمُ إليها في تقييمِ الحكومات القادمة. وقد يُطلقُ الاعتذارُ حواراً وطنياً عن إصلاحِ نظام المحاسبة، واستعادةِ ثقةِ المغتربين السوريين في الاستثمار، وإرساءِ تقليدٍ يُنهي عصرَ "الوعود الفضفاضة".
إن الوضع الراهن ليس مجرد حالة مؤقتة، بل هو مفترق طرق لا رجعة عنه في تاريخ السياسة السورية. الحكومة التصريفية التي حملت على عاتقها مهمة الانتقال وإعادة الترتيب، تركت وراءها سلسلة من الوعود التي لم تتحقق، لكنها تحمل في طياتها دروسًا يمكن أن تُشكل الأساس لعهدٍ جديد. في كل فشل درس، وفي كل اعتذار فرصة لبناء مستقبل أكثر شفافية ونزاهة.
عشرة أيام فقط تفصلنا عن نهاية هذه المرحلة الانتقالية، وفي هذه الأيام الأخيرة يتعين على الحكومة أن تُثبت للعالم ولشعبها أن السياسة يمكن أن تكون مسؤولة وإنسانية. إن الإعلان عن مؤتمر صحفي شفاف، يُظهر فيه الوزراء كل ما تحقق وما لم يتحقق، سيكون بمثابة رسالة قوية تقول: "لقد حاولنا، وإن كان الفشل جزءًا من التجربة، فنحن مستعدون للتعلم منه".
Comments