د. حسين الديك
أن ما جرى في البيت الأبيض بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يعد سابقة تاريخية في الدبلوماسية الأمريكية والعلاقات الدولية، إذ شهد اللقاء تصعيدًا غير مسبوق من قبل ترامب، وصل إلى حد إهانة رئيس دولة حليفة علنًا، وهو ما يتعارض مع الأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية المتعارف عليها عالميًا.فهذا السلوك يتناقض مع اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، التي تنظم العلاقة بين الدول ذات السيادة وتحكم كيفية التعامل بين القادة والزعماء، حتى في ظل الأزمات والخلافات السياسية، والتي سادت بعد الحرب العالمية الأولى.
وهذا السلوك لم يكن مجرد انتقاد سياسي، بل نهج عدائي يحمل دلالات عميقة، مشيرًا إلى أن ما حدث يمثل "نقلة خطيرة في طريقة تعامل الولايات المتحدة مع حلفائها، حيث بدا أن ترامب لا يرى أوكرانيا شريكًا حقيقيًا، بل تابعًا يجب عليه الامتثال لرؤيته".فلم يتوقف ترمب عند انتقاد زيلينسكي، بل استخدم لغة مهينة، متهمًا إياه بعدم الاستعداد للسلام وتقليل احترام الولايات المتحدة، وهو ما يعتبره الديك قلبًا للحقائق، و أن الإهانة كانت في الواقع موجهة للرئيس الأوكراني، وليس العكس، وهذه الطريقة القوية في التعامل من قبل ترامب تعكس نهجًا أمريكيًا جديدًا في إدارة العلاقات الدولية، يذكّر بأساليب العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، عندما كانت العلاقات بين الدول قائمة على المصالح المؤقتة والتحالفات الانتهازية، مما أدى لاحقًا إلى ظهور الحركات الفاشية والنازية، ودخول العالم في دوامة الحرب العالمية الثانية.
أن الأزمة بين ترامب وزيلينسكي أثارت ردود فعل غاضبة في أوروبا، خصوصًا في باريس وبروكسل، حيث وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موقف ترامب بأنه غير عادل، مؤكدًا أن "من يقاتل منذ ثلاث سنوات هو من يحق له الحديث عن الواقع، وليس من جاء مؤخرًا ليحدد مسار الحرب"، في إشارة إلى أن زيلينسكي هو الأحق باتخاذ قرارات بشأن مستقبل الحرب، وليس ترامب.
و أن الموقف الأمريكي المتذبذب دفع الاتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر في استراتيجيته الدفاعية، مشيرًا إلى أن اتفاقية الأمن الجماعي الأوروبية أصبحت قيد إعادة الدراسة، وأن هناك جهودًا مكثفة من فرنسا وألمانيا وإيطاليا لتعزيز مشروع إنشاء جيش أوروبي مستقل، وهو أمر يجري الحديث عنه منذ سنوات، لكنه أصبح الآن أكثر إلحاحًا في ظل تراجع الثقة في التزام الولايات المتحدة تجاه أمن أوروبا. فالأوروبيين يدركون خطورة تمدد النفوذ الروسي، إذ يخشون أن تكون أوكرانيا مجرد البداية، وأن الدول المجاورة قد تصبح الهدف التالي لموسكو، ما يجعل بناء قوة عسكرية أوروبية مستقلة أمرًا ضروريًا لمواجهة التهديدات المستقبلية.
أن تصريحات ترامب حول عدم استعداد زيلينسكي للسلام تكشف عن انحياز أمريكي متزايد تجاه الموقف الروسي، حيث يبدو أن واشنطن باتت أكثر تقبلًا لفكرة احتفاظ روسيا بالأراضي الأوكرانية التي ضمتها، في إشارة إلى المقاطعات الخمس التي أصبحت تحت السيطرة الروسية.و أن هذا التوجه يعكس محادثات سرية بين موسكو وواشنطن، قد تتضمن قبولًا أمريكيًا ضمنيًا ببقاء هذه الأراضي تحت الحكم الروسي، وهو أمر يرفضه زيلينسكي رفضًا قاطعًا، باعتباره تنازلًا غير مقبول عن سيادة أوكرانيا، ولكن الموقف الأوروبي يبدو مختلفًا عن التوجه الأمريكي، حيث تتزايد الدعوات داخل أوروبا لتقديم مزيد من الدعم العسكري والسياسي لكييف، تعويضًا عن أي تراجع محتمل في الدعم الأمريكي تحت قيادة ترامب.
وفي الحقيقة فان الولايات المتحدة أخلّت بالتزاماتها تجاه أوكرانيا، مشيرًا إلى أن ما حدث في البيت الأبيض يعكس تغيرًا جذريًا في الاستراتيجية الأمريكية، حيث لم يعد الدعم لكييف مضمونًا كما كان خلال إدارة بايدن، مما يضع زيلينسكي في موقف حرج سياسيًا وعسكريًا.و الحرب في أوكرانيا لم تكن مجرد حرب بين دولتين، بل كانت مواجهة بين معسكرين دوليين، حيث تقاتل أوكرانيا نيابة عن الغرب وحلف الناتو، وليس فقط دفاعًا عن أراضيها، وهو ما يجعل الموقف الأمريكي المتغير بمثابة خيانة للمصالح الأوروبية والأوكرانية.
أن الديمقراطيين في الكونغرس الأمريكي انتقدوا بشدة سلوك ترامب ونائبه خلال المشادة مع زيلينسكي، حيث اعتبروا أن ما حدث يسيء لسمعة الولايات المتحدة كدولة قائدة للعالم الحر، وقد يُضعف نفوذها في المستقبل.
Comments