الاعلامي كريم حداد
يشهد المنظور القضائي في لبنان تحولاً نوعياً بفضل مساعي المحقق العدلي طارق البيطار في قضية انفجار مرفأ بيروت. فقد تجاوز دوره في إصدار القرار الظني، متوجهاً نحو إنهاء التحقيقات الشاملة التي تشمل كافة الجهات التي سبق تقديم طلب التحقيق بحقها، سواءً من وزراء أو نواب أو مسؤولين أمنيين. ويعكس هذا المسار حرصه الثابت على الوصول إلى الحقيقة بكل أبعادها ومحاسبة كل من شارك في الانتهاكات السابقة، مما يجسد التزامه الراسخ بمبادئ العدالة ومحاربة الفساد
خطوات موسعة لاستعادة الثقة
تأتي هذه الإجراءات في إطار محاولة جادة لاستعادة ثقة المواطن في النظام القضائي من خلال الكشف عن كل تفاصيل القضية وليس الحدث الراهن فحسب. إن التحقيق في الانتهاكات التي مارسها المسؤولون على مدى عقود طويلة يُعد خطوة حاسمة لضمان أن عدم تكرار مثل هذه الممارسات مستقبلًا وترسيخ ثقافة الشفافية والمساءلة. كما يسهم هذا النهج الشامل في بناء آليات رقابية مستقلة تضمن تطبيق القانون على الجميع دون استثناء، بعيدًا عن أي تدخلات نابعة من مصالح ضيقة.
سرقة أموال المواطنين: جرح لا يندمل
ليس الانهيار المالي الذي يعاني منه لبنان نتيجة ظروف عابرة أو عوامل خارجية، بل هو ثمرة سياسات ممنهجة نفذتها الطبقة الحاكمة على مدى عقود طويلة، مدعومة بتغطية قضائية وسياسية مكّنت تلك السياسات من نهب أموال المودعين تحت ذرائع متعددة. فقد تم استنزاف الاحتياطي النقدي في مصرف لبنان تحت ذريعة تقديم الدعم، ليواجه المواطن اللبناني واقعًا مريرًا يتمثل في احتجاز أمواله، وتنصل المؤسسات المصرفية من مسؤولياتها، وتبادل السياسيين للاتهامات دون مساءلة حقيقية.
وفي هذا السياق، تظهر ضرورة المحاسبة فيما يتعلق بوزراء الحكومات السابقة الذين أشرفوا على تبديد الاحتياطي النقدي تحت مسمى “الدعم”، حيث استُخدم هذا المبلغ لتمويل شبكات الفساد والمحسوبيات بدلاً من وصوله إلى مستحقيه. وهنا يبقى السؤال الأهم: هل يجرؤ القضاء على مساءلة هؤلاء المسؤولين؟
قضية رياض سلامة: انعكاس لازدواجية المعايير
يُعد ملف حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة، مثالاً صارخًا على ازدواجية معايير التطبيق القضائي في لبنان. فرغم تراكم الشكاوى والملفات ضده، لا تزال المحاكمة تعاني من التأجيل والمماطلة، مما يثير تساؤلات حول جدية الدولة في محاسبة كبار المسؤولين المتورطين في فضيحة الفساد المالي. وإن تمت محاكمة سلامة بنزاهة وشفافية، فإن ذلك لن يقتصر على قضية فردية، بل سيفتح الباب أمام مساءلة جميع من ساهم في هذه المنظومة؛ بدءًا من المصارف التي حجبت أموال المودعين، مرورًا بالسياسيين، ووصولاً إلى القضاة الذين ساعدوا في طمس الحقائق وعرقلة سير العدالة.
رؤية لعهد جديد: هل يشكل خطاب القسم لرئيس الجمهورية خارطة الطريق؟
في ظل هذه التحديات، ينبثق فجر عهد جديد يتطلع فيه المواطن اللبناني إلى مستقبل يُبدد فيه ظلال الفساد وتعود الثقة إلى قلوب الناس. وفي هذا السياق، يُعد خطاب القسم لرئيس الجمهورية اللبنانية، العماد جوزاف عون، رسالة نداء للوحدة الوطنية وإعلانًا عن ضرورة الإصلاح الجذري في كافة مؤسسات الدولة. يمثل هذا الخطاب وعدًا بالتغيير والشفافية، ويضع حجر الأساس لعهد تستند فيه السلطة إلى مبادئ العدالة والمساءلة الحقيقية.
القضاء على مفترق طرق مصيري
يواجه القضاء اللبناني اليوم مفترق طرق حاسم؛ ففي حال لم يبدأ مسار المحاسبة الجدية وشملت التحقيقات المسؤولين والقضاة المتواطئين مع منظومة الفساد، قد يتحول المستقبل إلى استمرار لعهد فقد شرعيته على المستويين الشعبي والدولي. لقد بات المواطن اللبناني قد شبع من الخطابات الفارغة والوعود الكاذبة، والمطلوب الآن اتخاذ إجراءات عملية وقرارات حاسمة تضمن استقلال القضاء وقدرته على مواجهة منظومة الفساد بدلاً من أن يكون جزءًا منها.
يبقى السؤال المطروح: هل سيتمكن النظام القضائي من استعادة ثقة الشعب اللبناني وإنهاء عهد الانحراف والنهب المالي، أم سيظل لبنان رهينًا بما يُعرف بـ”نصبة العصر” التي حولته إلى دولة مفلسة؟
Comments