مارون سامي عزّام
ثار النّاس على حُكم الشتاء الظّالم، ملّوا من حصاره لبيوتهم، مُردّدين شعار "الشعب يريد إحياء الرّبيع"، لكي يُشاركوا فعليًّا في مهرجان "عودة الحياة". فخرج النّاس من بيوتهم الآمنة بالدفء، نازعين عن أجسادهم ملابسهم الواقية من البرد، الذي كان آخر أعوان الشّتاء. شربت الأرض نخب انتعاشها، مُرسلةً تحيّة الأزهار لشهر آذار، الحاملة أيامه أهم فرحة عرفتها البشريّة، وهي عيد الأم.
لقد غدونا ضلعًا من ضلوع عمرها، ونعتبر أنفسنا الأغصان المتفرّعة من شجرة عطائها، المثمرة بالرأفة، فنتفيّأ تحت ظلالها... لذا لا يسعنا إلّا أن نكون أول المعترفين بوجودها في كافة جلساتنا. إنّ صوتها المميّز يوفر لنا راحة البال الأبدية، يجعلنا نشهد أمام أنفسنا قبل غيرنا بمدى تأثيره على مجريات يومنا... على طريقة اتخاذنا للقرارات بشكل صائب.
لم يُدرك الرسام ليوناردو دافنشي رَوعَةَ مبسم الأم، فلو بُعِثَ مجدّدًا لعجزت ريشته عن رسمه، لم يختفِ وجه الأمومة خلف غمام التعب، بل سطع أكثر، منيرًا نجوم دموعها في وسط سماء روعتها. راعت مملكة طفولتنا، تحمَّلَت شقاوتنا، تفهّمتْ تطفلنا البريء، وما زالت تتفهَّم تصرفاتنا، لإدراكها أنّنا حفظنا في صغرنا دستور تربيتها، لو تخلينا عنه، لاتّهمنا المجتمع بخيانة أعظم بنوده، وهو وجوب تقديسها. أعتَبرُ قسوتها قوّة ناعمة، لإحساسها بالخوف علينا، حتّى تردعنا عن المعاصي، تحمينا من أغلاطنا العفويّة غير المقصودة.
تحاول الأم قدر استطاعتها أن تمنع بأسلوبها الرّحيم والحكيم، اجتياح رياح الخصام، الفرقة والكراهيّة لأولادها، المنتشرة كثيرًا في هذا الزّمن الماديّ الكريه، تطلُبُ من بعض الأبناء الذي تنكّروا لأعظم وصيتين عرفتهما الديانات السماوية، "أكرم أباك وأمك" و"بالوالدين إحسانا"، أن يحموها من تقلّبات الظروف الفجائيّة، تدعوهم لينشروا هاتين الوصيتين بين رفاقهم تحديدًا، الأكثر هشاشةً سلوكا، فهؤلاء للأسف لا يدركون أبدًا أن تكرار دعواتها ستجعلهم يعاينون خلايا الشر، السوء والإذلال، الخفيّة عنهم.
علّمتنا الأم وجوب احترام الآخرين، غفرت ذنوبنا، كقديسة تراءت لنا عند الشدائد، وانتصرنا عليها، لأنّنا دائمًا نسير في درب هدايتها، نصغي جيدًا لتوصياتها التربويّة. شكرًا لله القدير الذي جعل كلمة "ماما"، محفورةً في قاموس طبيعة المرأة... شكرًا للبشرية التي جعلت الطّفولة ركنُا منعشًا للحياة... شكرًا لكل من كتب خاطرةً أو أغنيةً عن الأم.
هذا الشّكر لم ينسجم مع جسد الواقع، لأن عيد الأم بات ذا وجهَين، الأول: الوجه السعيد لأبناء هنّئوا أمهاتهم بقبلة زيّنت وجناتهن... البعض الآخر أطلق أسراب تهانيهم عبر هواتفهم الذّكية لكل فتاة متزوجة في العائلة، لبسَت حديثًا ثوب الأمومة. أمّا الوجه الثّاني، فهو الوجه المحزون لأبناء فقدوا أمهم قبل الأوان، لأنهُم يفتقدون لطعم حنانها الشّهي الذي لا يُعوّض، رغم تعاطف الأقارب معهم عند حلول هذه المناسبة الحسّاسة والأليمة، ولكنهم لا يستطيعون سد فجوة اشتياق هذه الأسرة لأمهم الحقيقيّة،
انتهى عهد الصّمت الذي كان يتحكّم بأجواء الزّوجَين قبل مجيء طفلهما، فهذا المقاوم الصّغير رفض أي لحظة هدوءٍ تسود المنزل، لأنّه مُسلّح بآلة ضّجيجٍ تلقائيّة، محبَّبة على الأهل، ليلفت انتباههم نحوه دائمًا وبأي وسيلة، يحاول إثباِت وجوده بينهم، ليتفاعلوا مع حركاته. انتشرت صيحات الأطفال في المنزل الذي تحرَّكت محتوياته على نغمات غنجهم، فبعثروا الألعاب في كل زواياه. تراكض الوالدان خلف أطفالهم على مدار السّاعة، من أجل حمايتهم من خطر الإصابة، كما يسعيان الآن في فترة المراهقة لحماية أخلاقهم من التَّهوُّر.
الأمور التي ذكرتها أعلاه تعتبر من مستحضرات الأنثى البيولوجيّة، وأفضل المستلزمات الشّخصية في حياة أي شابّة مقبلة على مشارف الحياة المستقبلية، التي تحلم بها مع شريك حياتها، لأنّه من الطّبيعي جدًا أن تصبح أمًّا، فهذه غريزة ربّانيّة تولد معها تلقائيًا، نلاحظ تأثيرها الواضح من خلال تصرّفات المرأة مع أي طفل حديث الولادة أو في سنيه الأولى، فولادته ليس فقط لإحياء عيد الأم، بل إنه عبارة عن ثورة فرح عارمة جدًّا، تثور على المفهوم الرّوتيني لمعنى الحياة الأسرية، لتبدأ سيرة كفاح الأمومة، حرصًا على استمرار الحياة.
Comments