bah موطن الحقيقة / مسائل شائكة - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

موطن الحقيقة / مسائل شائكة

03/24/2025 - 22:07 PM

Atlas New

 

 

 

د. فهيم الشايع *

 

" أن ما يقبل التغيير لا يستحق اسم وجوده، فلا يكون موضوعاً لمعرفة؛ لأن المعرفة ينبغي أن تكون ثابتة "، أول ما طرحه الفلاسفة عن الحقيقة التغير وعدم الثبات، وبينما يراه – التغير - السابقون واللاحقون ضعفا، قد يكون القوة، وهذا الانطباع اختلط بمحاولة خلط الحقيقة مع الواقع، الاضداد تخلق بعضها، أو لها ظاهر يصنع حقيقة لصورة قد تكون هي الأسهل للاستيعاب الإنساني، يخدمها المطلق بحفر حدود بينها، وتأتي النسبية بطمر ذلك الوضوح، لكن تحت وطأة خدعة ما، يمررها العقل على أنها أضداد، توزع المساحات ليقتسم الوضوح لهما الأقصيين، ولولا أحدهما لما كان للآخر أي معنى، تخيل أن تكون كل الناس أوفياء، أن يكون كل الناس كرماء، لولا الخيانة ما عرف الوفاء، ولولا البخل ما عرف الكرم، أيهما أسبق بالوجود هذا لا يعني لي شيئاً أقف عنده، وقد يزعج مسامعك الاستماع إلى نهاية الطريق المنطقية، لكن يُمكنك أن تتخيل – مثالاً – أن الصدق يحتاج إلى الكذب بشأن اثبات وجوده، والوجود يحتاج اللاوجود بشأن الحديث عن حدوده، كل هذا (الصدق والكذب، الكرم والبخل، الشجاعة والجبن، الوفاء والخيانة، وغيرها ) مجتمعة تعني الحقيقة .

تقاوم الحقيقةُ وهي في أعمقِ أعماقنا ساعية إلى الاستقرار في وضعها الطبيعي، فهي لا تنتمي إلى القعر لكنها تخضع تحت تأثيرات داخلية وخارجية يُمكن وصفها بتأثيرات الآخر، ولا يُمكن انتاج هذه التأثيرات لوظيفتها فينا، إلا من خلال امتلاك الآخر لسلطة ما، ومهما تنوعت هذه التأثيرات فهي متفقة على انتاج غزل قيود – متنوعة كذلك – تحيط الحقيقة بتصورات وهمية تُعيقها من الخروج إلى السطح.

بين القعر والسطح حكاية للحقيقة مع الواقع والمعاني، فبالرغم من سعي الحقيقة بأنبل أهدافها إلى مطابقة الواقع الذي صار ماضياً، فهي تحاول الانتماء إلى الواقع إلا أن واقعها يُسكنها القعر مجبرة، والقعر الذي يعد تأخراً وغرقاً لا يمثل غرق الحقيقة فهي مجبرة للولادة هناك، بل أثبتت بأنه يُمكنها التعايش هناك حتى الموت، القعر كمسكن للحقيقة يقترب معناه من العمق أكثر من الغرق، بل اكاد اجزم أن العمق لم يكتسب ذاك المعنى المنمق إلا من خلال سكنى الحقيقة له، وغاب عن السطح وضوحه ونجاته عندما غابت الحقيقة عنه.

يأتي الإعلان عن الأخطاء والاباحة عنها كمنقذٍ يجر الحقيقة من أذيالها إلى السطح، نعم هو ذاك الاعتراف الذي يأخذ الحقيقة للارتكان إلى مكان ولادتها، أو افتراضنا لمكانها الطبيعي، ولن يكون الاعتراف مؤثراً إذا لم يكن أقوى من تلك السلطة التي أجبرت الحقيقة على البقاء غائرة في أظلم الأعماق؛ لذا تجد من السهل الايمان بالحقيقة لكن من الصعب النطق بها، وهذا لأن الايمان يولد من الأعماق بالقرب من الحقيقة ذاتها، بينما تلامس صرخات الاعتراف بها السطح، لهذا يحتاج النطق بالحقيقة إلى واسطة بينهما وما أفضل، وأسهل، وأصعب، وأوضح، والاكثر غموضاً، من الاعتراف .

يولد الاعتراف عن إرادة داخلية، وبالرغم من أن السلطة قد تكون داخلية أم خارجية، إلا أنها مجبرة لخوض صراع داخلي مع الاعتراف محاولة البقاء على ما هو عليه، منفصلة على بعض النتاجات البشرية كالهروب من الشعور بالضعف الذي ينتجه الاعتراف، المبالغات النفسية في تشكيل صورتنا الجديدة لدى المحيطين بعد الاعتراف، تهميش أهمية اظهار الحقيقة، وعدها مجرد اثراً جانبياً يجب التعامل معه بدلاً من أن يكون ذلك هدفاً، كل تلك الضغوطات التي تمارس على الاعتراف من قبل السلطة، لا تحاول إبقاء الحقيقة في القعر بقدر ما تحاول تشكيل صورة قريبة من الحقيقة، يكون الاعتراف رساماً بدلاً من أن يكون محرراً؛ لذا ليست كل الحقائق المعترف بها هي حقائق ناجية كلياً، لأن الاعتراف في مقاومته للسلطة قد يضطر لترك أجزاء من الحقيقة هناك، لا يُمكن أن تكون على السطح أبداً.

الحقيقةُ ليست ساذجة ولا بريئة ولم تُشكلها الصدف، الحقيقة أخطر ما فيها أنها تعي ذاتها، واعية بتشكيلها، وضياعها، وتشذرها وتشظيها، متيقنة أنها يجب أن تفقد جزء منها في رحلة خروجها، ليس شرطاً أن يكون الفقدان في القعر؛ أهم شذرات الحقيقة وشظياها، تلك التي يسلبها الطريق منها، الحقيقة تعي أن الزمن يلونها، يطمس من أهميتها، مثل فتاة تحلم بالمرح فقاتلت ونجحت لكن كان ذلك متأخراً فالمشيب لا يهوى السهر.

 

* دراسات خاصة في الفلسفة / باحث في مقارنة الأديان

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment