الإعلامي كريم حداد
في 27 تشرين الثاني 2024، أعلنت الدولة اللبنانية – عبر إجماعٍ سياسي نادر ضمَّ رئيس مجلس النواب نبيه بري وحكومة نجيب ميقاتي و "حزب الله" – قبولها وقف إطلاق النار مع إسرائيل والالتزام الكامل بتنفيذ القرار الدولي 1701، بعد مفاوضاتٍ دقيقة قادتها الأطراف اللبنانية بدعمٍ دولي. هذا الإنجاز حمى لبنان من حربٍ مدمرةٍ كانت تلوح في الأفق، لكنّه تحوّل إلى محور هجمةٍ سياسيةٍ شرسةٍ استهدفت رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، الذي لعب دوراً محورياً في ترسيخ الإجماع الوطني وحماية المؤسسات الدستورية.
لم يكن قبول لبنان بتنفيذ القرار 1701 – بعد 18 عاماً على صدوره – مجرد خطوةٍ ظرفية، بل ضرورةً لوقف تصعيدٍ عسكريٍ كاد يُدخل البلاد في حربٍ مفتوحة. ينص القرار على انسحاب القوات غير الحكومية من جنوب لبنان، ونشر الجيش اللبناني على الحدود، وتعزيز دور قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل).
وقد وفّر الرئيس عون غطاءً مؤسساتياً للاتفاق، مع تأكيده على ثوابت السيادة الوطنية، مثل رفض أي تنازلٍ عن الحقوق اللبنانية في الأرض والمياه، وإشراف الجيش اللبناني على التنفيذ بعيداً عن الوصاية الأجنبية، وربط أي تسويةٍ سياسيةٍ بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.
لكن المفارقة تكمن في تحوّل هذا الحدث التاريخي إلى ساحة معركةٍ سياسيةٍ تستهدف الرئيس عون شخصياً. فمنذ انتخابه في 9 كانون الثاني 2025 بتوافقٍ برلمانيٍ عريض شمل لأول مرةٍ دعم "الثنائي الشيعي"، مثّل عون تحدياً لمنظومة السلطة التقليدية القائمة على المحاصصة الطائفية وتوزيع المناصب كغنائم. خلفيته العسكرية ورفضه الانخراط في صفقاتٍ مشبوهةٍ أو الخضوع لضغوط المحاور الإقليمية حوّلته إلى عدوٍّ لقوى داخليةٍ اعتادت توظيف الفراغ الرئاسي السابق (الذي استمر عامين) لتحقيق أجنداتها.
انطلقت حملة التشويه عبر اتهاماتٍ ملفّقةٍ تتراوح بين "التطبيع غير المباشر مع إسرائيل" و"التهاون في ملف السلاح" و"الخضوع للضغوط الدولية"، بينما يؤكد الرئيس تمسّكه بثوابت الاتفاق دون شروطٍ جانبية. تُكشف هذه الهجمة عن خوفٍ مبطّنٍ من تحوّل لبنان إلى دولةٍ قادرةٍ على فرض سيادتها، ما يُهدد مصالح قوى محليةٍ وإقليميةٍ تعتمد على إبقاء الدولة ضعيفةً لخدمة مشاريع تفتيتٍ أو هيمنة. تعتمد آليات التشويه على صناعة أزماتٍ وهميةٍ عبر تحويل أي عائقٍ تقني إلى "فشل رئاسي"، واستغلال إعلامٍ مُموَّلٍ لنشر اتهاماتٍ عشوائيةٍ مثل "العمالة"، وإثارة الانقسامات الطائفية بسردياتٍ كاذبةٍ تُصوّر الاتفاق كمؤامرةٍ ضد طائفةٍ معينة.
الهجمة ليست ضد شخص الرئيس، بل ضد نموذج رئاسةٍ ترفض أن تكون أداةً في يد الأجندات الخارجية أو الداخلية. فتحقيق الاستقرار يعني تقليص هيمنة الميليشيات، وكشف عجز الطبقة السياسية عن الإصلاح، وإثبات قدرة لبنان على البناء دون وصايةٍ خارجية. الهجمة على عون اعترافٌ ضمني بقيمة الرئاسة كرمزٍ للاستقلال بعد أن حوّلها من منصبٍ شكلي إلى درعٍ واقٍ للسيادة. فالقوى المهاجِمة هي ذاتها التي راهنت على الانهيار الاقتصادي لتعزيز نفوذها، وحوّلت "المقاومة" من مشروعٍ تحريري إلى ورقة تفاوضية.
القبول بتنفيذ القرار 1701 لم يكن تنازلاً، بل خطوةٌ لانتزاع المبادرة من دوامة الحرب. لكن المعركة الحقيقية تتجاوز شخص الرئيس إلى إرادة شعبٍ يواجه سؤالاً مصيرياً: هل يكفي قائدٌ واحدٌ لإنقاذ دولةٍ منهوبةٍ، أم أن التغيير يحتاج إلى إرادة جماعية تنتزع الوطن من براثن الفساد وتعيد بناءه على أسس العدالة والاستقلال؟.
Comments