bah الصحافة بين غواية الخوارزمية وندرة البوصلة - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

الصحافة بين غواية الخوارزمية وندرة البوصلة

05/01/2025 - 04:01 AM

Atlas New

 

 

 

بقلم: لبنى عويضة...

 

الصحافة لم تعد اليوم سلطة، لقد أصبحت أداة بيد من يمتهنونها، وبدل أن يُسأل: “ماذا جرى؟” بات السؤال: “ما الذي يمكن أن يُباع؟ وما الذي قد يتحوّل إلى ترند؟” في زمن تحكمه الخوارزميات، وتُحرّكه الغرائز اللحظية، خُلع عن الصحافة تاجها الأخلاقي، واستبدله السوق بلعبة النقرات، وعدّادات المشاهدات، وانفعالات الجمهور.

 

من قيادة الرأي إلى ملاحقته

في الماضي، كانت الصحافة تحرّك الرأي العام، تصوغ الأسئلة الكبرى، وتفتح النقاشات. أما اليوم، فهي تمشي خلفه، تتبنّى أكثر الأصوات تطرفاً، لا لجرأتها، بل لقدرتها على إشعال التفاعل.

لم يعد الخبر نهاية بحث، بل بداية تلاعب. ولم تعد الحقيقة هدفًا، بل خامة قابلة للتشكيل حسب متطلبات السوق والمزاج الرقمي السائد.

 

الصحفي بين الضمير… و ”صانع المحتوى”

الصحفي الذي كان يُنظر إليه كضمير للمجتمع، تحوّل في كثير من الأحيان إلى “منشئ محتوى”. الأخطر من ذلك، أن الجمهور نفسه بات متواطئًا: يطلب الإثارة، يستهلك التبسيط، ويضجر من التعقيد، وهكذا، تراجعت القيم المهنية، وأصبح الفرق بين الصحافة والدعاية مجرد مسألة إخراج بصري، لا جوهرًا أخلاقيًا.

عاشت الصحافة لعقود باعتبارها السلطة الرابعة، لا لأنها تكشف الخفي فقط، بل لأنها ساهمت في تشكيل الوعي، ووقفت على تقاطع حساس بين الحدث والفكرة.

الصحف الكبرى كانت تُقرأ كما تُقرأ الكتب: بتأنٍ، بتقدير، وبثقة. أما اليوم، فقد دخلنا زمنًا لا يشبه زمن الورق بشيء، لا في المضمون ولا في الاحترام.

 

الرقمية… حرية أم تفريغ؟

التحول الرقمي لم يغيّر فقط شكل الصِّحافة، بل قلب بنيتها: من منطق البحث والتقصي، إلى منطق الجذب والسرعة. من مساءلة السلطة، إلى ممالأة الخوارزميات.

بات العنوان أهم من النص، والمحتوى يُختصر في سطر، ثم يُدفن في زحمة الإعلانات. اختفت السياقات، وضاعت المضامين، وما كان يُكتب ليفهم صار يُنشر ليُشارك.

 

تآكل الثقة… والضحية: الحقيقة

أسوأ ما خلفه هذا التحول هو تآكل الثقة. المتلقي بات يشكّك في كل ما يقرأ، لا لأنه أكثر وعيًا، بل لأنه غُمر بالتضليل، وسُحبت منه أدوات التمييز بين الرأي والمعلومة، بين الصحافة والدعاية. أصبح كل شيء قابلاً للنشر، وبالتالي: لا شيء يتمتّع بمصداقية كافية.

كان الورق يفرض على الصحافة احترامًا ومسافة، يمنح الخبر ثِقلًا فكريًا، ويجعل من القراءة فعل تأمل. أما الآن، فالخبر يزحف بين الإعلانات، يصرخ ليُرى، ثم يتبخر بلا أثر. تبدّدت المعايير، وتحوّلت الصحافة إلى منتج سريع الزوال، يركض بلا توقف، نادرًا ما ينتج شيئًا يستحق البقاء.

 

حين تقاوم الصِّحافة بصوت خافت

وسط هذا الانحدار، ما زالت هناك مؤسسات تقاوم لا بالصراخ بل بالهدوء. لا بالمزايدة بل بالكتابة البطيئة، العميقة، الملتزمة.

بيروت تايمز واحدة من هذه الحالات النادرة. أربعون عامًا من الكتابة خارج منطق اللحظة، خارج “الترند”، وفي مواجهة عقلية الترويج السريع. أن تصدر صحيفة لبنانية مستقلة، وتحافظ على حضورها في العواصم العربية وفي أميركا طوال أربعة عقود، في وقت انهارت فيه مؤسسات أضخم وأغنى، ليس إنجازًا تقنيًا، بل موقف.

بيروت تايمز تمسّكت بفكرة جريئة: أن الصِّحافة، إن لم تكن بحثًا دائمًا عن المعنى، فهي لا تستحق أن تبقى.

بيروت تايمز لم تتورّط في ابتذال الوعي، ولم تغامر بالتطبيل لهذا أو ذاك. بقيت مساحة للرأي لا للضجيج، للذاكرة لا للموجة. وفي هذا الزمن الرمادي، زمن “ما بعد الحقيقة”، هذا وحده كافٍ للاحتفاء بها.

 

الصحافة: الانتحار البطيء

الصحافة لم ولن تمت، لكنها اليوم تنتحر - بكل وعي، وبكل وقاحة. لم يسقطها الرَّصاص، ولا كمّ الأفواه، بل أسقطها اللهاث الأعمى خلف جمهور لا يقرأ، وسوق لا يُفكر، ومنصات لا ترحم.

الصحافة لم تعد على قيد المعنى. وما نشهده اليوم ليس فقط انحدار مهنة، بل انقراض منظومة قيم، وسقوط معيار كان يومًا يحكم العلاقة بين الكلمة والحقيقة. لكن وسط هذا الغبار، تظل هناك بارقة ضوء.

فكما أن السوق لا يصنع الوعي، فإن الخوارزمية لا تصنع الحقيقة. وما زال هناك من يكتب لا ليُشارك، بل ليُفكّر. من يختار العمق على حساب الضجيج، والصدق على حساب النقرات.

في النهاية، قد لا تكون الصِّحافة بحاجة إلى جمهور واسع بقدر ما تحتاج إلى قرّاء حقيقيين.

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment