د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب *
خلال عصر الاستكشاف التي بدأت أواخر القرن الخامس عشر على يد الإمبراطورية البرتغالية والإسبانية في استكشاف أمريكا، وبسبب الحروب بين فرنسا وهولندا في القرنين 17و18 نشأت بريطانيا العظمى في 1707 وأصبحت القوة الاستعمارية المهيمنة في أمريكا الشمالية ثم أصبحت القوة المهيمنة في شبه القارة الهندية، وإن كان أدى استقلال المستعمرات الثلاث عشرة في أمريكا الشمالية عام 1783 بعد حرب الاستقلال الأمريكية إلى فقدان بريطانيا لبعض أقدم وأكثر مستعمراتها، جعل بريطانيا تتجه نحو آسيا وإفريقيا والمحيط الهادئ، خصوصا بعد هزيمة فرنسا في حروبها الثورية والنابليونية 1792-1815 عظمت قوة بريطانيا البحرية والإمبريالية في القرن ال19 أضحت القوة التي لا تقهر في البحر حتى سميت الفترة 1815- 1914 بقرن الهيمنة البريطانية واتخذت دور شرطي العالم.
وصفت بريطانيا في المعرض الكبير سنة 1851 بانها ورشة عمل عالمية، وبجانب سيطرتها على مستعمراتها، فإن سيطرتها القوية على التجارة العالمية، يعني أنها تسيطر فعليا على اقتصادات العديد من مناطق العالم مثل آسيا وأمريكا اللاتينية، لكن مع دخول القرن العشرين بدأت ألمانيا والولايات المتحدة بمنافسة بريطانيا في قيادة الاقتصاد العالمي، وبدأت معها التوترات العسكرية بين بريطانيا وألمانيا التي كانت أحد أسباب الحرب العالمية الأولى، رغم انتصارها في تلك الحرب إلا أن هيمنتها بدأت تتراجع عجلت من انكماش امبراطوريتها ومنحت الاستقلال لمعظم مستعمراتها حول العالم، وأثبتت أزمة السويس عام 1956 تراجع قوة بريطانيا العالمية لصالح الولايات المتحدة، ونقل هونج كونغ للصين عام 1997 اعتبر ذلك التاريخ نهاية الإمبراطورية البريطانية نهائيا.
تدرك الولايات المتحدة أهمية الهيمنة على البحار والمحيطات والسيطرة على الممرات لتبقى هيمنتها أكد ذلك جورج واشنطن الذي اعتبر الولايات المتحدة دون بحرية دولة عادية ومع بحرية دولة عظمى، ومنذ ان نصح ماهان لتقصير المسافة بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وتم حفرها في 1903 بعدما فشل الفرنسيون في 1881 توقفت في 1889 بسبب التكاليف الباهظة انتهت أمريكا من شق القناة في 1914 وهي جزء لا يتجزأ من توسيع القوة العالمية الأمريكية في مطلع القرن العشرين أتاح لها إنشاء أسطول بحري عابر للمحيطين الأطلسي والهادئ جعلها تغزو بنما في 1989 خلال رئاسة جورج بوش الأب وكان الهدف الإطاحة بالحاكم الفعلي لبنما الجنرال مانويل نورييغا المطلوب من قبل الولايات المتحدة بتهمة الابتزاز وفي أواخر يناير 1990 استسلم نورييغا.
سبق لواشنطن أن حمت بنما من غزو كوبي بعد نجاح الثورة الشيوعية بهافانا عام 1959، وألان يتهم ترمب بنما أن لديها مخاوف جدية بشأن النفوذ الصيني في قناة بنما ذلك الممر الحيوي بين المحيطين الأطلسي والهادئ، إذ يبلغ طول القناة 82 كيلو مترا، وكانت الولايات المتحدة تمتلك القناة قبل تسليمها إلى بنما عام 1977 بموجب معاهدة ضمنت حيادها، ويعتبر ترمب أن بلاده أخطأت عندما أعادت القناة عام 1977 في زمن كارتر.
هناك خشية من بعض المتخصصين الأمريكيين على غرار جيري هندركس قبطان البحرية الأمريكية المتقاعد في مقالة له منشورة في مجلة أتلانتيك يقدم وجهة نظر أفول عصر الهيمنة البحرية لبلاده، وما يعتقده أنه ضروري كي تنقذ الولايات المتحدة حضورها ونظام البحار الحرة الكائن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
هناك مبادرة من الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي يسعى لتعزيز موقفه محليا بمحاولة الاستحواذ على تايوان، واستخدام صواريخ بلاده البالستية المضادة للسفن وغيرها من الأسلحة للإبقاء على القوات البحرية الغربية بعيدا عن المعركة، حينئذ إلى تعزيز ادعاءاتها على أجزاء كبيرة من بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي كاملا باعتبار جزءا من مياهها الإقليمية، بالطبع ستتوالى الدول تطالب بأحقيتها في مياه إقليمية واسعة وانتزاع ما يمكن انتزاعه من التجارة العالمية المارة عبر مياهها، وستفتح الباب أمام القرصنة مثل قرصنة الحوثي، وفي حال تدهورت التجارة عبر المحيطات ستتجه الأسواق نحو الداخل، ما يتسبب في كساد كبير.
وقد تقصد ذلك الولايات المتحدة لتحجيم التجارة الصينية من أجل استعادت هيمنتها البحرية التي نمت على حساب الولايات المتحدة واستفادت من التجارة الحرة التي رعتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وارتفعت قيمة التجارة العالمية من 8 تريليونات دولار عام 1940 إلى أكثر من 100 تريليون دولار، بالطبع الأرقام معدلة حسب فرق التضخم، وانخفضت نسبة الفقر من 60 % إلى 10% أي الذين يحصلون على أقل من 1.9 دولار يوميا، لأن الولايات المتحدة لا تود أن تستفيد الصين من القوة البحرية لتعزيز تجارتها التي تهدد هيمنة أمريكا البحرية الطاغية خصوصا بعدما جرى تخفيض الأسطول الأمريكي بعد الحرب الباردة ووصل عدد السفن في عهد أوباما إلى 271 سفينة منخفضة من 750 سفينة عام 1971، بالطبع منخفضة من 6700 سفينة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بعدما دخلت الحرب ب790 سفينة، لم يكن هناك دولة تستطيع الوقوف أمام الأسطول الأمريكي سواء التجاري أو البحري.
وفي غضون ذلك بدأت كل من الصين وروسيا في تطوير أنظمة من شانها الوقوف في وجه نظام التجارة العالمية الحرة في أعالي البحار الذي تقوده الولايات المتحدة، وبدأت روسيا في بناء غواصات شديدة التطور تعمل بالطاقة النووية مدفوعة بنية امتلاك القدرة على عرقلة الارتباط البحري بين دول الناتو في أوروبا وبين أمريكا الشمالية، ووسعت الصين كذلك كلا من قدراتها التجارية وبناء السفن البحرية، وضاعفت حجم القوات البحرية ثلاثة أضعاف واستثمرت في صواريخ وأجهزة استشعار طويلة المدى قد تسمح لها بتحريم اقتراب السفن التجارية والعسكرية من شواطئها لأكثر من 1600 كيلو متر.
وبالفعل مدت كل من روسيا والصين إلى ادعاءاتهما الإقليمية لتشمل المياه الدولية، الهدف السيطرة على ممرات الشحن الحر بالقرب من شواطئهما ومن مناطق النفوذ المهمة، فيما أصبحت الولايات المتحدة مكبلة بالديون ومثقلة بنزاعات عسكرية مكلفة، فيما لو أرادت الولايات المتحدة أن تبقى قوة بحرية مهيمنة يمكنها تجنب التورط في شؤون الدول الأخرى كما يفعل ترمب في اتباع نصائح جورج واشنطن، واستعادة مستقبل الولايات المتحدة الاستراتيجي في البحر مثلما قامت الولايات المتحدة في بداياتها على أساس كونها قوة بحرية، كما كان يرى الفرد ماهان أن الولايات المتحدة هي قوة بحرية في المقام الأول، وأن السبيل الوحيد الحفاظ على حضورها العالمي هو ضمان سيطرتها على البحر.
وسبق أن نجح جورج واشنطن في تمرير قانون البحرية لعام 1794 نتج عنه تمويل الفرقاطات الست الأساسية للبحرية وحذر من الانخراط في حروب قارية أوروبية واعلاء المصالح الأمريكية والدخول في تحالفات مؤقتة وليست دائمة والاهتمام بحماية التجارة الأمريكية في أعالي البحار، ستحتاج الولايات المتحدة إلى الصناعات الثقيلة كي تنتصر في تحدياتها مع الصين وروسيا، فلا يمكنها ببساطة الاعتماد على قاعدة صناعية لدول أخرى، لتوفير احتياجاتها الضرورية للأمن القومي.
منذ 40 عاما غادرت الصناعات الأمريكية المحلية بالوظائف إلى خارج الولايات المتحدة، تجد الولايات المتحدة نفسها محصورة في منافسة جديدة للقوى العظمى مع الصين الصاعدة في المقام الأول، وأيضا مع روسيا غير المستقرة وصاحبة القوة المتضائلة، ما يعني أن الولايات المتحدة تحتاج إلى عودة الصناعات الثقيلة كي تنتصر في تحدياتها مع الصين وروسيا، رغم أن الولايات المتحدة حافظت على الصناعات الدفاعية لكن ثمة تقليص كبير حدث في القدرات الصناعية الأميركية الكلية، في أثناء الحرب العالمية الثانية امتلكت الولايات المتحدة 50 من أحواض السفن التي يبلغ طولها 150 مترا، واستطاعت كل منها بناء سفن تجارية وأخرى مقاتلة فيما تمتلك اليوم فقط 23 حوضا للسفن، منها فقط مخول لها بالعمل على سفن تابعة للقوات البحرية، فتحتاج إلى بناء مصانع للصلب ومسابك للرقائق الإلكترونية، وتطوير أسلحة فرط صوتية ومركبات ذاتية القيادة غير مأهولة تحت سطح البحر وتشجيع الشركات التي شجعتها على الاندماج على الانفصال تشجيعا للمنافسة.
في عالم تتحكم فيه القوة البحرية بموازين الهيمنة الجيوسياسية، لم تعد معادلة التفوق البحري مجرد مسألة تفوق تكنولوجي أو قدرات قتالية، بل أصبحت معادلة معقدة تتشابك فيها القدرات التصنيعية، والسرعة في التكيف مع التحولات العسكرية، خصوصا وأن الصعود الصيني المتسارع في المجال البحري بدأ يعيد تشكيل المشهد العسكري الدولي، ليضع واشنطن أمام تحد غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة، وهذا لا يعني التقليل من الهيمنة البحرية للولايات المتحدة فهي تمتلك 49 غواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية وهي أكثر تقدما بكثير، وتمتلك البحرية الأمريكية عددا أكبر من حاملات الطائرات والسفن الحربية الكبيرة مثل الطرادات والمدمرات تفتقر إليها البحرية الصينية، فيما تمتلك الصين القدرة الصناعية الهائلة لبناء السفن التي منحت الصين تفوقا عدديا توفر لها مزايا في أي حرب طويلة الأمد، ووفق مكتب الاستخبارات البحرية الأمريكي، فإن الطاقة الإنتاجية الصينية في هذا القطاع تتجاوز نظيرتها الأمريكية بأكثر من 200 مرة، أغلبها سفن تجارية وإن كانت الصين تواصل تضييق الفجوة النوعية مع الولايات المتحدة على سبيل المثال تعتبر المدمرة من طراز 055 مماثلة تقريبا لنظيرتها الأمريكية من الطرادات والمدمرات، وفي عام 2020 أبلغ مكتب الاستخبارات البحرية الأمريكي الكونغرس بان السفن البحرية الصينية أصبحت في العديد من الحالات مماثلة للسفن الأمريكية، وأن الصين تسير بسرعة نحو سد الفجوة في التصميم والجودة.
* أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى سابقا
Dr_mahboob1@hotmail.com
Comments