بقلم: مارون سامي عزّام
"لا شيءَ معي إلّا كلمات..."، اقتبست هذه الجملة من أحد قصائد نزار قبّاني المغنّاة، وهي "كلمات"، لأنّني وجدتها مناسبة جدًا، في ذكرى وفاته، أحسستُ أن رحيله قد أخذ معه كل الجمَل والتعابير الرّائعة، بعد أن استخدم نزار أجمل مفردات اللغة العربيَّة، فجعلها بسيطة، مفهومة، خالية من التعقيدات التعبيريّة، وقد لاقت استحسان الصغير قبل الكبير.
جال نزال بفرس غضبه في مزرعة السياسيين، التي تفوح منها رائحة الفساد العفِنَة، واضعًا عليه سرج عزيمته... تحدّى كل خصومه الشُّعراء، ولم يهتم لآرائهم، لشدَّة حُبِّه للشعر. بقي مواجهًا، صامدًا، حتّى غدا أحد فرسان ديمقراطيّة التفكير، وحريّة التعبير في العالم العربي. نزار الذي اعتبر بيروت ست الدُّنيا، اعتبرها أيضًا معلِّمته، بعد أن عاش فيها عشر سنوات.
هناك ثلاث تحولات عظيمة غيرت مجرى حياة نزار قبّاني، الأولى وفاة نجله توفيق، الثّانية اغتيال زوجته بلقيس والثالثة نكبة الخامس من حزيران، عام 1967، يعني وفاة العرب، فجنّد حينها جام غضبه، عندما رأى معسكرات كرامة العرب تنهار أمامه، خالية من فِرَق النصر، لذلك استغلها نزار، وأقام مكانها مُعسكرًا لشعره السياسي الثائر، ولكنّه لم يُهمل الحب أبدً.
كلمات نزار النّارية قصفت ثكنات تخلّف الوطن العربي، بقذائف قصائده الحارقة، لأنها بنظره متخلفة، وستظل مسكونة بالأميّة، لأن فكر الوطن العربي لم يخضع للمنطق، بل أخضعه الحكام العرب لمصالحهم، فهُم بنظر نزار قبّاني ورقة باليَة، خاسرة دائمًا، بلا قيمة دوليّة، ممّا زاد من انخفاض قيمتهم العربيّة بين "الأشقاء"، ففضح نزار نفاقهم وأكاذيبهم.
استشاط غضبًا من الأنظمة العربية الرجعيّة، لانكسار إرادتها أمام المجتمع الدّولي، فتمرّد عليها نزار بشعره، وكُلما أُبرم اتفاق بين العرب وإسرائيل، كان يشتد تطرّفًا في آرائه، مبتعدًا عن الواقع العربي المهزوم، وكان يقول دائمًا: "العرب يأكلون بعضهم البعض"، كان يريد أن يرى هامات زعماء الأمّة العربية شامخة بالكرامة والعزّة، بدون أن تحرّكهم أمريكا بخيوط إملاءاتها، وذلك حمايةً لحكومات إسرائيل، التي تتحكَّم بأجندتهم، لترتاح أمنيًّا، دون حدوث مواجهات أو استفزازات عسكرية... فيا لعارهم.
المرأة بالنسبة لنزار تعني حريّة المواطن العربي المقموعة، وطالما أن حريّتها ما زالت تحت سيطرة الرّجل الذي يعتبر جسدها "ملكية حصريّة" لرجولته المستفحلة!!، هكذا ستبقى حريّة الإنسان العربي من الكماليات المستحيلة، ولن يتوَّج نزار أميرًا لإمارة الحريّة، حتّى تتحرّر الأنظمة العربية من عقدة تأليه الحاكم بأمره...
...كم أتمنى أن تتبنَّى نظرية تطوُّر بلادها اقتصاديًّا وعلميًّا، حتّى يبلُغ المواطن العربي سن رُشد الانفتاح، لكي يرى حقيقة ما يجري من تغيُّرات في العالم الخارجي، لإثارة غيرته... هذا كان حلم نزار قبّاني، لربّما في ظل هجمة التطبيع الحاصلة عربيًّا، ستتحوّل الأمّة العربية من كائنات بهيمية، إلى كائنات بشرية، قادرة على استيعاب الحداثة.
قال وهو على سرير المرض في لندن: "العالم العربي كلُّه حولي الآن"، فبموته خبت أنوار الثريّا الإبداعية التي سطعت حبًا حارقًا. كان عرّاف المستقبل، الذي تنبّأ أن مآسي الأمّة العربيّة لن تنتهي أبدًا... حقًّا فإنّها ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا!، بسبب تآمرهم الخالد على شعار "أُمّة عربيَّة واحدة" فيا لويلاتهم... ويا لحماقتهم!!
أُضيفَ تاريخ الثلاثين من نيسان إلى قائمة عيد الشعر في منظّمة اليونيسكو... نزار هذا الحالم الحُرّ الأبدي، ظَلَمَه القَدَر... ظلمه السَّاسة... ظلمه رجال الدّين، لدرجة أنه عند وفاته في لندن، رفضوا الصّلاة على جثمانه، وحين وصوله إلى دمشق ليُشيَّع إلى مثواه الأخير، أُُجبِرَت السُّلطات على السماح بالصَّلاة عليه في الجامع، لأن نزار لا دين له، وعندما كان يُسأل عن دينه كان يقول: "أنا ديني نزار قبّاني"، لأنه حقًّا كان صريحًا، جريئًا، لا يهاب أحدًا، ليبقى العاشق الأزليّ لتاريخ الياسمين الدِّمشقي.
Comments