المهندس مدحت الخطيب *
انتهت جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عدد من دول الخليج العربي (السعودية، قطر، الإمارات) وسط زخم إعلامي واسع، صوّرتها بعض القنوات والصحف والمواقع الإلكترونية على أنها تحمل حلولًا كبرى لقضايا المنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ولا سيما معاناة غزة الممتدة منذ سنوات. لكن الواقع جاء مغايرًا تمامًا، إذ بدا واضحًا أن الشق الاقتصادي كان العنوان الأبرز والأعمق للزيارة، فيما غابت غزة عن جدول الأعمال، ولم تثمر الزيارة عن أي خطوة حقيقية لتخفيف معاناة سكانها أو كسر الحصار المفروض عليهم.
وقبيل مغادرته، صرّح الرئيس ترامب قائلاً: "أحد القادة العظماء أخبرني قبل ليلتين: أرجوك، ساعد الشعب الفلسطيني، فهم يتضورون جوعًا". وأضاف أنه أبلغه ببدء العمل لمساعدتهم، مشيرًا ضمنًا إلى غزة، وأن بعض الحلول ستظهر خلال الشهر المقبل. لكن، وكما اعتدنا من ترامب، فإن وعوده كثيرًا ما تلامس الهواء الساخن، يخلط فيها الواقع بالخيال، ويغلفها بإثارة إعلامية مقصودة، ركب على موجتها الإعلام العربي، فانهمرت التحليلات والتكهنات من كل حدب وصوب.
كمتابعٍ للشأن الفلسطيني، لم أكن أعلّق آمالاً كبيرة على هذه الزيارة، بل كنت أرجو فقط خبراً هامشياً يخفف من وطأة الحصار، خاصة بعد مبادرة حماس بإطلاق سراح آخر معتقل أميركي كإشارة حسن نية. لكن ذلك لم يحدث.
ما يدعو للاستغراب هو غياب الهجمات الإعلامية، وخاصة من جيوش "الذباب الإلكتروني"، التي شنّت سابقًا حملة شرسة ضد الأردن والملك عبدالله الثاني إثر زيارته إلى واشنطن ولقائه بترامب، حيث تحدث بوضوح عن واقع غزة المرير. حينها، لم يسلم الأردن من التشكيك والتقزيم والتشويه، وبلغ الأمر ببعض الحسابات الوهمية والمدفوعة حد المساس بالوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، والتقليل من دور الأردن في دعم القضية الفلسطينية.
نعلم جميعًا أن الذباب الإلكتروني ليس إلا أداة تحركها أيادٍ خفية، تنسج من خلف الشاشات حملات ممنهجة للهجوم أو الدفاع وفق الأوامر. يمارسون التلميح والتشهير، ويضربون أفرادًا أو دولًا بحسب ما يُملى عليهم. وفي زمن تحكم فيه الأدوات الرقمية صناعة الرأي العام، أضحى الذباب الإلكتروني من أبرز أسلحة الصراع السياسي والإعلامي، لا سيما في منطقتنا العربية.
ومن بين أبرز الأمثلة على ازدواجية هذا الذباب، المقارنة بين لقاء الملك عبدالله الثاني بترامب، وما تبعها من حملات شرسة، وبين لقاءات ترامب مع زعماء خليجيين آخرين، والتي مرت دون ضجيج، ودون أدنى تشكيك أو هجوم من ذات الجهات والأدوات الإعلامية.
هذا التناقض الصارخ يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة هذه الحملات، ومن يديرها، ولأي أهداف. فهل الذباب الإلكتروني يُحرّك فقط ضد الدول التي ترفض الانخراط في محاور معينة؟ وهل يُكافأ "الانسجام السياسي" بصمتٍ إعلامي مريب؟
التحليل الأقرب للواقع يشير إلى أن هذه الحملات تُدار بانتقائية عالية، تُستخدم لتسويق أجندات محددة أو لمعاقبة المواقف المستقلة. والأردن، بمواقفه الثابتة، كثيرًا ما كان هدفًا لهذه "الحرب الناعمة"، التي تسعى إلى الضغط والتشويه دون الدخول في مواجهة مباشرة.
لكن ما لا يُدركه من يقف وراء هذه الحملات، أن الأردن، رغم كل ما يواجهه، يملك شرعية تاريخية وشعبية، تجعله رقمًا صعبًا في معادلات الإقليم. ولا يمكن لأي حملة وهمية أن تقلل من هذا الثقل.
في النهاية، لا يصح إلا الصحيح. وسينكشف الذباب كما انكشفت أدوات التزييف من قبله، وتبقى الحقيقة أقوى من أي ضجيج رقمي.
حمى الله الأردن أرضًا وقيادةً وشعبًا، وأعان أهلنا في غزة وفلسطين على ما هم فيه من ضيقٍ وعناء.
* كاتب ونقابي أردني
Medhat_505@yahoo.com
Comments