بقلم: ألفة السلامي
لعبت المقاهي دورًا أساسيًا في تاريخ الأفكار الجماعية وانتشارها فهي أكثر من مجرد مكان نزوره لنحتسيَ القهوة أو الشاي مع الأصدقاء بل يحمل أيضا مشاعرَ الألفة مع من نلتقي بهم في المقهى فتأخذ العِلاقة طابعًا اجتماعيًا تواصليًا وثقافيًا وسياسيًا أيضًا. وفي المقاهي يلتقي عشاقها بموعد مسبق أو حتى بدون موعد، فيحلو الإنصات للحكايات والنكت والشعر ويمكن التعرّف على الهموم الفردية للناس ومشاغلهم حول العمل والأسرة وهموم الأوطان وأوجاعها. ولا يفوت من يزورون القاهرة للسياحة الذَّهاب لوسط البلد للجلوس على مقهى ريش الذي قرأوا عنه في كتب الأدباء. وكذلك الشأن عندما يزورون الإسكندرية والمنصورة.
وقد أطلق على المقاهي الشهيرة في العالم "مدارس المعرفة" لأنها لعبت دورا في تطور الأفكار حيث يلتقي داخلها مفكرون وفلاسفة ونقابيون من شتى المجالات وتنشأ حركات اجتماعية وثقافية وسياسية تساهم في تطور المجتمعات. وقد يفاجأ البعض عندما يعلم أن المقاهي وصلت إلى أوروبا متأخرة، أي في القرن السابع عشر بعد أن كانت قد انتشرت في الشرق العربي. وقد كان طلبة العلوم الفقهية والمُتصوفة والشعراء يجتمعون في المقاهي ويشربون القهوة بينما يتسامرون ويذاكرون أو يقومون الليل ويصلون.
وقد تطور هذا المكان في وظيفته فأصبح بمثابة النادي الثقافي والسياسي. وانتشرت المقاهي بمفهوم متطور لنشر الثقافات والمعارف المختلفة في مدن عديدة داخل الدولة العثمانية والتي كانت أصولها ذات مشارب متعددة. ثم أصبحت المقاهي، في لندن والبندقية وباريس، بمثابة مكاتب أكاديمية حقيقية، وفي الوقت نفسه برلمانات مرتجلة، ومكاتب صحفية، ودوائر شعرية، وأندية سياسية، ومنابر أيديولوجية، ومراكز فكرية للشباب أصحاب الآراء الثورية والأحلام الوردية الساعية لتغيير مجتمعاتهم، حتى أن الكثيرين رصدوا كيف كانت المقاهي حول العالم ولعدة قرون "مختبرات" لصنع الثورات وإنشاء الأحزاب والتنظيمات السياسية.
وسيكون مفيدا بل وممتعا لمن يعشقون المقاهي قراءة كتاب جيرار جورج لومير، عن "مقاهي الشرق". وتوقفت عند البعد التجاري للمقهى، خاصة عندما أشار إلى أن بعض التجار الكبار وأصحاب المشروعات في مجالات مثل القطن والمنتجات الزراعية الأخرى كانوا يرتبون لقاءاتهم في المقاهي لإبرام الصفقات وعقد الاتفاقيات، وكيف كان بعض التجار له عيون داخل المقهى ينقلون إليه ما يحدث من حوارات ونقاشات حول مواسم الحصاد وأسعار المنتجات المحتملة. يعني يتمكنون من الاطلاع على الجدل الدائر وكأنه "بورصة" افتراضية.
كذلك الشأن بالنسبة للبعد الطبقي للمقهى حيث أبرز لومير كيف كان المكان الذي يلتقي فيه الجميع، من كافة الطبقات والأعراق والفئات الاجتماعية و"كأنه المكان المخصص للقاء بين من لا يتزاورون في البيوت" ومن يعادون بعضهم في ساحة الأفكار ويتنافسون على حبّ الأوطان، كلٌّ من منطلقه الاجتماعي. ولعل أديب نوبل نجيب محفوظ هو صاحب الحكايات الأشهر عن المقاهي، والتي هي مركز المكان في رواياته وفي حياته، حيث المقاهي جزء منه ومن تاريخه ومن رواياته، من مقهى الفيشاوي إلى ريش مرورِاً بمقاهي زقاق المدق، عبدو، عرابي، أبي الهول وغيرها. إنها أمكنة حيّة، لا تفلت من خيالك وأنت تقرأ عنها، حيث سرعان ما تجد نفسك داخلها تتأمل روادها وتُحادثهم مستعيدا كلّ الصور الجميلة.
أما الإسكندرية المدينة الكوسموبوليتية في ستينيات القرن الماضي، فقد اجتمع في مقاهيها خليط من العرب والأرمن واليهود واليونانيين أثروا نسيجها وشاركوا في حداثتها وتطورها وانفتاحها على العالم. وفي مقاهي "سيدي بشر" و"باسترودي" في شارع فؤاد، و"دليس" و"سان ستيفان، وغيرها من المقاهي، لا يمكن أن تفارقك البهجة في هذه الأمكنة التي التقى فيها نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، والشاعران اليونانيان غوسيب إنغاريتي وقسطنطين كفافي، وكذلك الروائي البريطاني لورانس داريل كاتب "رباعية الإسكندرية". وقرأنا وسمعنا حكايات حول ولادة أشعار ومقاطع من روايات كُتبت في تلك الأماكن لتبقى خالدة.
Comments