بيروت تايمز - كتب جورج ديب
في مشهد الاغتراب اللبناني، يختلط الحنين الشخصي بالهمّ الوطني، وتتمازج القصص الفردية مع قضية جماعية عنوانها الكبير: "لبنان لن يموت" ملايين اللبنانيين المنتشرين في العالم، من أميركا الشمالية والجنوبية إلى الخليج وأوروبا وأفريقيا والبرازيل والارجنتين، يشكّلون اليوم ما يشبه الدولة اللبنانية الثانية – دولة من الكفاءات والطاقات والرساميل، وقد باتوا لاعبًا أساسيًا في المعادلة السياسية اللبنانية، خاصة مع اقتراب الانتخابات النيابية المقبلة.
بين حقيبة السفر وصندوق الاقتراع، تنهض حكاية وطنية جديدة: المغتربون اللبنانيون، الذين طالما دعموا وطنهم ماليًا ومعنويًا، يتحولون تدريجيًا إلى قوة انتخابية مؤثرة في إعادة رسم توازنات الداخل.
ما بعد الحنين: الاغتراب في قلب المعركة السياسية
لم يكن مفهوم "الانتشار" بالنسبة للبنانيين مجرّد توصيف جغرافي، بل واقع سياسي واقتصادي واجتماعي مركزي. وفق تقديرات رسمية وغير رسمية، يُقدّر عدد اللبنانيين في الاغتراب بين 8 و14 مليونًا، أي ما يفوق بثلاثة أضعاف عدد السكان المقيمين في لبنان، وفي بلدٍ تصنع فيه الأصوات القليلة فارقًا نيابيًا حاسمًا، يصبح صوت الاغتراب بالغ التأثير.
وقد أكدت التجارب الانتخابية الأخيرة (2018 و2025) أن المغتربين لا يصوّتون لمجرد الولاء الطائفي أو المناطقي، بل غالبًا ما يقترعون بعين نقدية، وبذهنية إصلاحية متحررة من الضغوط التقليدية التي تُكبّل الناخب المقيم، هذا ما دفع ببعض القوى السياسية اللبنانية إلى السعي – سرًا وعلنًا – للحدّ من هذا الصوت أو تحجيم تأثيره.
مع ذلك، فإن آمال اللبنانيين المنتشرين بدور أوسع في الانتخابات المقبلة تبدو أكثر رسوخًا، خاصة بعد تصاعد الحراك المدني في الاغتراب، وتنامي مبادرات التوعية، وازدياد حملات تسجيل الناخبين عبر السفارات والقنصليات.
تحويلات مالية... وتحولات سياسية
لطالما ارتبط المغترب اللبناني في الذهن العام بأنه "المغترب الحنون"، ذاك الذي يحوّل الأموال إلى أسرته في لبنان ليسدّ عجز الدولة، ويغطي نفقات التعليم والاستشفاء والغذاء. وتُقدَّر تحويلات المغتربين سنويًا بما يفوق 6 مليارات دولار، أي ما يوازي أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي.
لكن تلك الصورة بدأت تتبدّل، فالمغترب اللبناني لم يعد مجرد "ممّول" عابر. بل بدأ يطرح أسئلة: لماذا لا يكون لي صوت في السياسات العامة؟ لماذا أتحمّل كلفة دولة فاشلة لا تحميني ولا تمثّلني؟ من هنا، بدأ كثير من المنتشرين بتبنّي رؤية جديدة لدورهم: من الدعم الإنساني إلى التأثير السياسي. وقد ظهرت تجليات هذا التحوّل في أشكال متعددة:
- دعم لوائح مدنية وإصلاحية خلال الاستحقاقات الانتخابية.
- تمويل مشاريع إنتاجية وتنموية محلية.
- تأسيس منصات اغترابية لمواكبة الشأن اللبناني وتحليله بموضوعية.
- تعزيز شبكات الضغط في الدول المضيفة لحشد دعم دولي للبنان أو محاسبة الفاسدين فيه.
بين الطموح والواقع: تحديات الاقتراع من الخارج
رغم الاعتراف الرسمي بحق المغتربين في الاقتراع، لا تزال هناك تحديات ميدانية ومعنوية تعترض مشاركتهم الفعّالة:
- البيروقراطية الإدارية: تبدأ بالعقبات التقنية للتسجيل على المنصة الانتخابية، ولا تنتهي بضعف التنسيق بين البعثات الدبلوماسية ووزارة الداخلية.
- العوائق اللوجستية: بعض المدن الكبرى التي تحتضن مئات آلاف اللبنانيين (مثل ساو باولو، باريس، سيدني، نيويورك، بوسطن، ديتريوت ولوس انجلوس...) لا تحتوي على عدد كافٍ من مراكز الاقتراع أو كوادر مؤهلة.
- الريبة السياسية: بعض الأحزاب التقليدية لا تخفي توجسها من تصويت المغتربين الذين غالبًا ما يميلون للتغيير أو المحاسبة، وقد تسعى إلى إلغاء المقاعد الستّة المخصصة للاغتراب أو تأجيل تطبيقها بذريعة الحاجة لإصلاح القانون الانتخابي.
ومع ذلك، فإن الإرادة المنتشرة في الخارج تتخطى العقبات. فحملات التوعية والتسجيل تتكثف في جاليات متعددة، لا سيما في كندا، أميركا، ألمانيا، الإمارات، وأفريقيا الغربية، حيث يعمل الناشطون على تحفيز اللبنانيين على الاستعداد المبكر للانتخابات.
ماذا يريد المغترب اللبناني؟
حين تسأل مغتربًا لبنانيًا في مونتريال أو أبو ظبي أو أبيدجان عمّا يريده من وطنه الأم، لا يقول لك: "أريد حقيبة وزارية"، بل يطلب ببساطة دولة تؤمن له:
- قضاءًا مستقلًا.
- بنية تحتية تحفظ كرامة المواطن.
- تعليمًا رسميًا وشفافًا.
- استقرارًا سياسيًا وأمنيًا يحفّز العودة أو الاستثمار والسياحة.
هو لا يطلب امتيازات، بل حدًّا أدنى من العدالة، وقد يكون هذا بالضبط ما يخيف المنظومة: أن يأتي التغيير من الخارج، من ناخب لا يُشترى، لا يُرهب، ولا يُغرّر به بخدمة أو كيس طحين.
الخلاصة: لبنان يحتاج لطاقته المنتشرة
إذا كان لبنان قد صمد طوال العقود الماضية رغم الحروب والأزمات، فلأن لديه رئة اسمها الانتشار، لكن المطلوب اليوم ليس فقط أوكسيجين مالي، بل ضخّ جديد في شرايين السياسة اللبنانية عبر صناديق الاقتراع.
المغتربون اللبنانيون، بسلوكهم الواعي وإرادتهم الإصلاحية، قادرون على إعادة التوازن للديمقراطية اللبنانية، وتصويب المسار النيابي نحو تمثيل فعلي لا صوري. لقد آن الأوان لأن يُعامَلوا لا كمصدر تمويل، بل كجزء لا يتجزأ من الكيان السياسي اللبناني.
وإذا كانت الانتخابات المقبلة فرصة لتجديد الأمل، فإنّ الاغتراب هو المفتاح الذهبي لهذا الأمل.
شهادات من الاغتراب: "نصوّت كي لا نموت صامتين"
من لوس أنجلوس الى ديترويت، تتشابه الكلمات وتتوحّد النبرة: "نريد التغيير، من حيث نحن". هؤلاء بعض اللبنانيين المنتشرين الذين التقيناهم، فكان حديثهم صريحًا ومشحونًا بالأمل والتصميم:
ليلى أبو حيدر – لوس أنجلوس، كاليفورنيا – الولايات المتحدة الأميركية:
"نحن هنا لا نعيش فقط من أجل تحسين أوضاعنا الشخصية، بل نتابع تفاصيل لبنان كأننا لا نزال نعيش فيه. الجالية اللبنانية في أميركا ناشطة جدًا، خاصة بعد أزمات 2019 وانفجار المرفأ، وهناك مزاج عام تغييري في مدينة لوس أنجلوس. بدأنا مبادرة مستقلة اسمها صوت الاغتراب، وبالتعاون مع إدارة التحرير في صحيفة بيروت تايمز نعمل فيها على تشجيع المغتربين الناخبين ومساعدتهم في فهم القانون الانتخابي اللبناني، والمطالبة بقانون جديد يسمح للمغتربين بالمشاركة الفاعلة في الانتخابات النيابية المقبلة.
الرسالة التي نحملها هي أن التصويت ليس فقط حقًّا، بل واجب وطني وأخلاقي. لقد هاجرنا من لبنان، لكن لبنان لم يهاجر منّا".
أحمد حميه – ديترويت، ميشيغن – الولايات المتحدة الأميركية:
"عشنا في لبنان مراحل الانهيار، ثم تابعنا من الخارج كيف فقد الناس ودائعهم وانعدمت الثقة بالدولة. في ديترويت، نحن عشرات الآلاف من اللبنانيين، ومعظمنا لا يزال مرتبطًا بجذوره، لا سيما في الجنوب والبقاع والشمال.
أسسنا شبكة تطوعية تعمل على تشجيع الجالية على التسجيل للانتخابات، وتثقيفها حول أهمية الصوت الاغترابي. نعمل بعيدًا عن الاصطفافات السياسية التقليدية، وهمّنا الأساس هو بناء كتلة ناخبة مستقلة تعبّر عن ضمير المغترب.
صوتنا لا يقلّ أهمية عن صوت المقيم، وربما هو أكثر تحرّرًا. نُريد أن نُحدث فرقًا، لا أن نبقى مجرّد محوّلين للمال أو متفرجين على مشهد الانهيار".
خاتمة ميدانية
هذه الشهادات، وغيرها الكثير، تشكّل نبضًا متصاعدًا في جسم الاغتراب اللبناني. هم ليسوا "جالية"، بل جزء حيّ من الوطن، يصرخ من وراء المحيطات: لبنان ليس للبيع، وحقنا في التغيير لن يُصادَر.
Comments