الاعلامي كريم حداد
بعد سنوات من التأجيل، أنجز لبنان استحقاقه البلدي والاختياري، في أول انتخابات من نوعها منذ العام 2016. هذا النجاح، وإن جاء متأخرًا، شكّل بارقة أمل في قدرة الدولة على إعادة تشغيل ما تبقى من مؤسساتها، وَسَط عاصفة الانهيار الاقتصادي والسياسي.
لكن في بلد يعيش منذ عقود على حافَة التوازنات الهشّة، لا يكفي نجاح تقني لإجراء الانتخابات البلدية كي نطمئن إلى أن الاستحقاقات المقبلة ستُجرى بسلاسة أو بعدالة. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يستطيع لبنان أن ينظم انتخابات نيابية حرّة ونزيهة في ربيع 2026، وَسَط معادلات مختلّة وسلاح لا يزال خارج الدولة؟
أظهرت نتائج الانتخابات البلدية في الجنوب استمرار التماهي بين البيئة الشيعية وحزب الله، حيث اعتُبر التصويت للحزب بمثابة تجديد للولاء في وجه التهديد الإسرائيلي المتجدد. لم يكن خيارًا سياسيًا تقليديًا، بل رد فعل دفاعي في ظل فراغ الدولة وعجزها عن لعب دور الحامي. هذه الصورة تؤكد أن الاستحقاقات في لبنان لا تنفصل عن سياقها الأمني، بل تتغذى منه.
أما في المناطق المسيحية، فقد تجلّت الانقسامات بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” بشكل صارخ، ما أدى إلى انهيار فعلي لاتفاق معراب التاريخي. تحوّلت المعارك الانتخابية إلى ساحات لتصفية الحسابات، وتراجع منطق الخدمة العامة لصالح الخطاب التحريضي والانقسامي، وسط حالة استقطاب تنذر بمزيد من التصدّع في البيئة المسيحية.
وفي ما تبقّى من مشهد طائفي، يغيب القرار الواضح عن الطائفة السنية منذ انسحاب الرئيس سعد الحريري، وتعيش الطائفة الدَّرْزِيَّة تحت وطأة ازدواجية القيادة، بينما الطوائف الصغيرة تئنّ تحت وطأة التهميش وفقدان التمثيل الفعلي.
القانون والسلاح: معادلة تُجهض الديمقراطية
في ظل هذه المعادلات، تبدو انتخابات 2026 معلّقة بين سَندان القانون الانتخابي ومطرقة السلاح. فالقانون الحالي، الذي جرى تفصيله بتفاهم بين القوى النافذة عام 2017، أثبت أنه ليس أداة تمثيل، بل وسيلة لإعادة إنتاج الطبقة الحاكمة. لم يُمسّ هذا القانون رغم كل الانتقادات، ما يعني أن أي استحقاق يجري في ظله سيكون أقرب إلى مسرحية محاصصة منه إلى استفتاء ديمقراطي حرّ.
أما السلاح الخارج عن سلطة الدولة، فبات أحد المعوّقات الكبرى لأي منافسة متكافئة. فحين تكون بعض القوى قادرة على الجمع بين العمل السياسي والقوة العسكرية، تُفرغ الانتخابات من مضمونها، وتصبح صناديق الاقتراع وسيلة لشرعنة واقع مفروض بقوة الأمر الواقع.
هل يشهد لبنان انتخابات في موعدها؟
رغم كل ما سبق، فإن إجراء الانتخابات النيابية في موعدها الدستوري واجب لا يحتمل التأجيل. لكنه ليس كافيًا. المطلوب هو ضمان الحد الأدنى من العدالة السياسية: قانون انتخابي جديد، بيئة آمنة غير مسلّحة، وعدالة إعلامية ومالية للمرشحين.
فمن دون هذه العناصر، لن تكون صناديق الاقتراع سوى واجهة لعملية إعادة توزيع الحصص داخل المنظومة ذاتها، لا مدخلًا لإصلاح حقيقي أو تغيير فعلي.
ما بعد البلديات: بدء العدّ العكسي
الانتخابات البلدية شكّلت اختبارًا تمهيديًا، لكنها ليست نهاية الطريق. الرسائل التي حملتها صناديق القرى والبلدات لا يجب أن تُهمل. فقد قالت الناس كلمتها، وإن بصوت خافت، ضد التهميش والاحتكار، وضد تغييب الدولة.
المعركة المقبلة ليست تقنية ولا إدارية. إنها معركة على هوية لبنان: هل نبقى رهائن معادلات السلاح والتفاهمات المغلقة، أم نفتح نافذة أمل نحو دولة مدنية، سيدة، قادرة، تعيد الاعتبار للدستور وللشعب؟.
ربيع 2026 ليس موعدًا انتخابيًا عاديًا. إنه موعد مع التاريخ
Comments