bah الملكية الإنسانية لا تخضع للسيادة - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

الملكية الإنسانية لا تخضع للسيادة

06/09/2025 - 01:19 AM

absolute collision

 

 

 

عادل صوما

 

ستفتح الدولة الدينية العميقة المصرية على ما يبدو، من سيناريو قضية دير سانت كاترين في المحاكم، الباب أمام ما يطلق عليه طلبة القانون في أميركا أحجية للحل أثناء دراستهم لمعرفة مدى ذكائهم لحل مشكلة قانونية ما، وهذه الأحجية لا يعُترف بها في المحاكم.

حُجاية وقانون

من هذه الأمثلة، ما بُني عليه فيلم “You don’t know Jack” المأخوذ من قصة حقيقية، بطولة النجم آل باتشينو، الذي دأب على ممارسة الموت الرحيم بطريقة مبتكرة، بعد موافقة مرضى اتصلوا به وطلبوا منه أن يميتهم بطريقته. وبعد توقيعهم على موافقة خطية منهم بحضور شاهديّن، نفذ باتشينو الموت الرحيم فيهم وسط رضا المريض بخلاصه من أوجاعه ووداع أهله وصلواتهم وهو ينازع، وتناول الإعلام هذا الأمر بعدما أصبح ظاهرة، وأقام محامون دعوى عليه، وقال في المحكمة مدافعاً عن نفسه أنه نفّذ طلباً لمرضى بعد توقيعهم بوجود شهود، وهذا الطلب كان موتاً رحيماً أراحهم من أهوال العذاب، لكنه لم ينفذ إعدامهم، حسب ما تتهمه هيئة المحلفين، لكن المحكمة حكمت عليه بالسجن لتعمده القتل، وقالت القاضية أن مرافعته تصلح كرأي في حُجاية (مفرد أحجية) لطلبة حقوق، لكنه يعتبر قاتلا بالنسبة للمحكمة بالنسبة للوقائع.

تراث مصر

القشرة الإسلامية الظاهرة الحالية في مصر طمرت عن سابق تصور وتصميم تاريخيها السابق، ويبدو أن الدولة الدينية العميقة المصرية من خلال أذرعها في الحكومات الحديثة، تستهدف ما تبقى من تاريخ مصر وتراثها ومعالمها، لأنها عادت إلى حُجاية طلب إثبات ملكية العقارات القديمة لمالكيها، وعدم إثبات الملكية يعطي حق الانتفاع لهم وليس حق ملكيته، وهذا القانون لم يستهدف بنايات أو أراض، بل استهدف معلماً إنسانياً يتخطى مصر والمذهب الأرثوذكسي والمسيحية هو دير سانت كاترين.

إذا طُبق ما هو مطلوب في قضية دير سانت كاترين، فيمكن توّقع تطبيقه، من باب السخرية أو الواقع فلا أحد يعلم، على كل الأثار الفرعونية والبطلمية والرومانية المسيحية، حيث إن الأرض ملك الدولة!

فإذا لم يكن في أرشيف تاريخ مصر القديمة ما يُثبت ملكية الأهرام لقدماء المصريين، فمعنى ذلك أن وجود الأهرام يمس سيادة مصر (الحالية)، ووجودها يتحول إلى انتفاع فقط لشاغريها أو السواح لمدة محدودة، وقد تهدمها الدولة بعد انتهاء حق الانتفاع، أو يحق لها بناء ما تشاء حولها لتطوير المنطقة سياحياً!

قانون إثبات ملكية الأرض قد يُطبق، من باب السخرية أو الواقع فلا أحد يعلم، على مقابر مصر القديمة، وفيها فراعنة وبطالمة ورومان ويهود وأمازيغ ومسيحيون، وإذا لم يثبت الأموات ملكيتهم لها، سيصبح وجودهم مساساً بسيادة مصر وأمنها، ومن ثمة ستعطي الدولة حق انتفاع فقط لمدة محدودة لشاغلي القبور، ثم ستطردهم بعد ذلك.

دير سانت كاترين

يعتبر الدير من الأقدم في العالم، ويتميز بوجود رهبان فيه منذ سبعة عشر قرناً، ويضم مكتبة من أكبر المكتبات التي تحتوي على المخطوطات المسيحية النادرة وتُقدر بحوالي 6000 مخطوطة، وفيه 1440 قطعة أثرية بما فيها مخطوط النسخة الإنجيلية السينائية، وفيه مجموعة من الأيقونات البيزنطية تبلغ حوالي 2000، وتشكل أكثر من نصف الأيقونات البيزنطية التاريخية على مستوى العالم، وحتى الآن يحتفظ الرهبان بوثيقتين أحدهما من رئيس الدير لصاحب الشريعة المحمدية، كما أطلق على رسول الإسلام، والثانية رد محمد عليه. وتم بناء على ذلك التراث والتاريخ تسجيله ضمن التراث العالمي لليونسكو سنة 2002.

مر على مصر غزاة كثيرون من جهة الشرق بمن فيهم جيش الاحتلال العربي بقيادة عمرو بن العاص، ولم يمسوا وضعية الدير، وأعطى السلطان العثماني سليم الأول بعد غزو واحتلال مصر سنة 1517 للدير وثيقة تؤكد ملكية الدير لأصحابه وهم اليونانيون.

مجمّع الأديان

بدأت مشكلة دير سانت كاترين مع مشروع الرئيس الراحل انور السادات بناء مجمع الأديان في المنطقة نفسها، ومن أجل تنفيذ المشروع وضعت الحكومة يدها على بعض أملاك الدير مثل وادي الراحة وجزء من جبل الطور أو التجلي، وأصدرت الحكومة المصرية في عهد السادات سنة 1980 قراراً يقضي بإن الأماكن التي ليس لها سجل عقاري، يجب على قاطنيها تقديم ما يُثبت هذه الملكية، وقدم الدير 71 ملفاً منها وثائق تاريخية تثبت ملكيتهم للدير، وأخذوا إيصالات رسمية بأنهم قدموا هذه الملفات لإثبات ملكيتهم التاريخية لهذا الدير، وبالتالي ملكية دولة اليونان التاريخية لهذا الدير، لكن الحكومة المصرية ماطلت ولم تعطهم صك ملكية.

استمرت المماطلة حتى بعد اغتيال السادات، الذي لم يُدفن في وادي الراحة حسب وصيته ولم يتم تنفيذ حلمه "مجمع الأديان"، لكن في سنة 2012 بدأت مشكلة حين تقدم اللواء أحمد رجائي عطية بدعوة قضائية ضد ملكية الدير لأصحابه وخسر الدعوى، ثم تطورت المشكلة رسميًا سنة 2015 بدعوى قضائية من محافظ سيناء خالد فودة (نسيب السيسي) تطالب بطرد الرهبان وتسليم الدير للحكومة المصرية، ومصادرة 29 قطعة أرض من أراضي الدير، واعتبار ثمن مبانيه تعويضاً عن استخدامه لمدة سبعة عشر قرناً، وقيمة تعويض المباني هي 5,000,000 جنيهاً مصرياً.

حُكم مُسيس

بعد مماطلات ومماحكات صدر حكم مُسيس خطير عن محكمة الاستئناف في الإسماعيلية في 28 مايو 2025  بخصوص "دير الله المقدس لجبل سيناء" الذي تغير إلى دير سانت كاترين بعد اكتشاف رفات الفيلسوفة والقديسة كاترين السكندرية التي لم تزل فيه.

جاء في حكم مايو 2025 أن الدير والأرض التابعة له يخضعان لقانون الأثار والمجلس الأعلى للآثار، وحق الرهبان هو الانتفاع فقط وليس حق الملكية، ما يعني أن وجود الرهبان منذ سبعة عشر قرناً كان مجرد تأجير (من دولة إسمها جمهورية مصر العربية لم تكن موجودة منذ سبعة عشرة قرناً) والرهبان موجودون اليوم بشكل موقت احترامًا لعقود محررة بين الوحدة المحلية لمدينة سانت كاترين والدير، ويجب تسليم المرافق فور انتهاء عقد الإيجار!

تجاهل الحكم حتى صك ملكية الدير لأصحابه الصادر عن السلطان سليم الأول، والوثائق التي قدمها الدير وتجاهلتها الدولة منذ سنة 1980.

مالك العقار

ذكر بيان الاتحاد اليوناني لعلماء اللاهوت أنه أصبح من الواضح أن هناك مخطط قيد التنفيذ يهدف إلى تغيير الوضع القانوني القائم في ما يخص ملكية الدير، وتسعى هذه الخطط إلى مصادرة ممتلكاته وإخلاء الرهبان تدريجياً، وتحويله إلى متحف ومنتجع سياحي، وربما في مرحلة لاحقة إلى مسجد. وقال البطريرك المسكوني برثولماوس: "لقد احترمت القرون دير سانت كاترين فلتحترمه الدولة المصرية".

مباحثات مستمرة

الحكومة اليونانية بعدما صدر الحكم الابتدائي الأول سنة 2022 بدأت مباحثات مستمرة للوصول إلى اتفاقية بين الحكومة المصرية والحكومة اليونانية في ما يتعلق بوضع الدير.

 بدأت المباحثات لوقف النزاع القضائي، وتم صياغة اتفاق مشترك يمنح الدير الحق في ملكية 71 قطعة أرض محل النزاع وإسقاط الإجراءات والطعون القانونية والاعتراف بملكية اليونانيين للدير مع الالتزام بالتعاون مع هيئة الآثار المصرية لحماية المعالم الأثرية اليونانية، لكن عندما حان وقت التوقيع، تهرّب الرئيس السيسي من التوقيع، لذلك وصف القانونيون اليونانيين حكم محكمة الإسماعيلية بإنه قرار سياسي مُسبق.

اتفاقية دولية

الموضوع كما يبدو حُسم، ولن يلغي حكم محكمة الإسماعيلية سوى توقيع اتفاقية دولية ليس بين مصر واليونان فقط، بل يجب أن تشارك منظمة اليونسكو فيها كمشرف ومراقب على التراث العالمي، وهو أمر مستبعد نظراً لمراوغة السيسي، وله سوابق حتى مع عرب الخليج حين دعموه مالياً وأيدوا شرعيته ضد حكم الإخوان المسلمين، وقال وقتها "أمن الخليج من أمن مصر وأي اعتداء هيحصل أنا هكون هناك مسافة السكة".

لم يوفِ السيسي بما قاله بتاتاً، لأن أميركا تولت حماية أمن الخليج، وقصفت الحوثيين علاوة على إسرائيل لعدم تعطيل الملاحة الدولية في البحر الأحمر، التي تستفيد منها مصر بإيرادات قناة السويس، ولم تطلق مصر مسيرة واحدة لحماية أمنها وسيادتها ضد الحوثيين!

قانون دولي

تاريخية وقيمة دير سانت كاترين الإنسانية والحضارية يتعلقون بالقانون الدولي لحماية الآثار والصيانة أيضاً، فوجود الدير وملكيته لليونان لا يمس سيادة الدولة المصرية، تماماً مثل ملكية أي دولة لأرض عليها سفارتها في بلد ما، لكن هناك فرق ما بين السيادة واستعمال السلطة بتعسف لتفريغ الدير، وهو ما لم تستطع دول عمله لأي سفارة على أراضيها، حتى في حال الحرب أو القطيعة.

لم تفرّغ كوبا أو أميركا سفارتيهما من محتوياتهما منذ القطيعة الديبلوماسية في رئاسة كينيدي حتى أوباما، ولم تظهر مماحكات ملكية أميركا لأرض سفارة كوبا في واشنطن أو العكس!

حقول ألغام

في مصر قانون يقول إن أي بناء عمره أكثر من مئة سنة يمكن اعتباره أثار، والأثار تدخل في ملكية الدولة.

ولو طُبق هذا القانون بحذافيره ستكون مدن بكاملها آثار وملكاً للدولة، مثل الإسكندرية التاريخية القديمة، لكن هذا القانون يظهر وقت الحاجة إليه والمستفيد الوحيد حالياً ليس أنور السادات، بل مشروع "التجلي الأعظم" الذي طرحه السيسي سنة 2022، والمشروع سيُنفذ على أراضي الدير وحوله وأمامه، ما يعني حصار الدير تماما بما لا علاقة له بتاريخ المنطقة أو الدير، وقد يحمل المستقبل ما هو أخطر.

إذا تهاونت الحكومة اليونانية ومنظمة اليونسكو في تطبيق القانون الدولي لحماية الآثار، واعتبر الغرب أن مشكلة دير سانت كاترين داخلية، كما حدث عندما حوّل أردوغان متحف آيا صوفيا إلى مسجد مرة ثانية، وصمت الغرب خصوصاً البابا فرنسيس ولم يعتبروا أن آيا صوفيا معلماً إنسانيا لا يجوز التلاعب به، فمن المؤكد أن دير سانت كاترين والمنطقة المحيطة به سيسيرون على الطريق نفسه.

وجود وزير الأوقاف الإسلامية في الصورة مع رهبان الدير يطرح سؤالين: هل الدير وقف إسلامي جاء أسامة الأزهري يتفقده قبل استلامه؟ هل مشروع "التجلي الأعظم" للحكومة أو للأزهر؟

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment