السفير الدكتور هشام حمدان
منذ طفولتي وأنا أبحث عن وطن. جاهدت وناضلت معتقدًا أنّ وطني هو المكان الذي ولدت فيه، وولد فيه والديّ وأجدادي. زرعت نفسي وقلبي في ترابه. أرويته من عرق جبيني ورفعت الصوت في كلّ منتدى أدافع عن قضاياه. لم أترك فرصة لم أتحدث فيها عن تاريخه وتراثه ومكانته بين الشّعوب منذ أن صنع الفينيقيّون مجده قبل خمسة ألاف عام.
سألني إولادي: وما هو الحاضر يا أبانا وما هو المستقبل؟
فهمت السّؤال...
صمتّ لحظة وقلت: نعم الأرض غالية، والتّاريخ عصارة أرواح، لكنّ الإنسان قيمة لا يصنعها التّاريخ ولا الأرض بل السّلطة التي تدير مقومات الوطن.
بئسا لسّلطة جعلتنا ننسى أمجاد الوطن إذ باعت وطننا لأهواء غرباء، يغمسون في أرضه مدادهم ويجعلون من إنسانه حبرا يروي هذا المداد.
رحت أفتش عن وطن رفعت سلطاته مجده بتمجيد الإنسان فيه، ورفع قيمته إلى مستوى القداسة. لم أجد أفضل من أميركا، وطنا ينظر إلى المهاجر إليه إنسانًا أوّلا قبل جنسيته وجنسه ولونه ودينه ومعتقده وحالته البدنية والمادية.
منحت لبنان سنوات عمري السّبعين. سرقت السلطة مني أحلامي. شرّدت أبنائي ونهبت أموالي. أمّا في أميركا فقد جعلتني السلطة مواطنًا متساويًا مع كلّ مواطن آخر منذ أن وطـأة قدماي أرض هذا البلد العظيم، وتلقّيت بطاقة الإقامة الدّائمة فيه.
هنا، أنا لست مواطنًا من درجة ثانية أو ثالثة. هنا لا يصنع مذهبي قيمتي في وطني, ولا يصنع انتمائي السياسي حقوقي أو مكانتي. أنا هنا لا ألهث من أجل الدّواء والاستشفاء. لا يصنع محيطي الجغرافي حقوقي وميّزاتي. أنا هنا أنعم في كلّ زاوية من البلاد، بذات الحقوق والميّزات. أنا هنا أنتقد كلّ مسؤول في السّلطة بما في ذلك رئيس الجمهوريّة فلا يهدّدني أحد بإحراق بيتي أو يصدر بيانات تشتمني. أنا هنا حرّ، حرّ أنام وأستيقظ مع زقزقة العصافير. أحلم، فأجد عشرات الذين يفتحون الباب أمام تحقيق حلمي. أنا هنا قيمتي في ما أثبته من كفاءة وقدرة وإخلاص وعطاء.
أنا مواطن أميركيّ أعلم أنّه إذا تعرضت لأذى، فالسلطة ستدافع عني، وتمنحني الحماية. لست بحاجة لهذا وذاك. أرفع جوازي وأصرخ أنا أميركي. في هذا البلد عرفت قيمة أن تكون مواطنًا لدولة تحترم دستورها وسيادتها وكرامة شعبها.
بالطبع سيبقى لبنان مزروعًا في قلبي. ولن أكابر. لكنّني أستطيع الآن أن أتمتع في لبنان بما تبقى من إرثه الرّائع وأحتفظ في آن بقيمتي الإنسانيّة.
شكرا أميركا.
Comments