بقلم: صالح الطراونة
مندوب بيروت تايمز – عمّان
في كل مرة ألتقي فيها بالدكتور طلال أبو غزالة، أكتشف وجهًا جديدًا من وجوه العبقرية المتعددة التي يحملها هذا الرجل الاستثنائي. لكن اللقاء الأبرز، وربما الأقرب إلى القلب، كان حين دعاني إلى مكتبه الخاص في عمّان، وجلسنا مطولاً نناقش قضايا فكرية وثقافية وعلمية تركت في نفسي أثرًا عميقاً.
في ذلك اللقاء، تناولنا موضوعين أساسيين: أولهما كان إشادته الكريمة بكتابين لي، رآهما مساهمة مهمة في توثيق الخطاب الملكي الأردني، وهي لفتة أعتز بها من رجلٍ اعتاد أن يقدّر الفكر والإبداع. أما الموضوع الآخر، فكان مقالتي التي نُشرت في صحيفة "رأي اليوم" اللندنية، والتي سلطت فيها الضوء على جوانب إنسانية وشخصية من سيرة الدكتور أبو غزالة. يومها، ابتسم متفاجئًا وسألني: "كيف عرفت هذه التفاصيل؟"، ثم تابع حديثه معي بنبرة الناصح الحكيم، مشاركًا رؤاه وتجاربه بسخاء قلّ نظيره.
الحديث عن الدكتور طلال أبو غزالة ليس مجاملة ولا ترفًا صحفيًا. نحن نتحدث عن رائد معرفي، وقامة اقتصادية عربية فريدة، أعاد تشكيل مفهوم الملكية الفكرية في العالم العربي، وكان من أوائل من تحدثوا عن اقتصاد المعرفة وضرورة الاستعداد لعصر الثورة التكنولوجية.
أسّس مجموعة من المؤسسات الرائدة التي رفدت الفكر العربي بالحداثة والابتكار، وأطلق جامعات ومراكز بحوث متخصصة ساهمت في تخريج أجيال من المبدعين في ميادين التكنولوجيا والاقتصاد والحوكمة الرقمية. لم يكن حضوره عالميًا فقط من خلال فروع مجموعته المنتشرة، بل من خلال فكره، وتأثيره في المنظمات الدولية، ولقاءاته مع كبار الشخصيات وصناع القرار.
وربما لا يعرف كثيرون أن هذا العملاق، بدأ مسيرته من مخيمات اللجوء، وأنه درس في بيروت رغم فقره المدقع، متحديًا ظروفه القاسية، حين خاض صراعًا شخصيًا مع إدارة الجامعة التي رفضت تسجيله لعجزه عن دفع الرسوم. لكنه قال لهم بثقة: "سأحصل على أعلى معدل تراكمي لأحصل على منحة"، ونجح بالفعل.
تروي سيرته أنه كان يخبئ الفاكهة القليلة التي يمتلكها في سكن الجامعة، ليقدّمها نهاية الأسبوع لأسرته. تلك القصة لا تنقل فقط الحرمان، بل تعكس عزيمة نادرة لرجلٍ رأى في التعليم والمثابرة الطريق الوحيد إلى القمة... وقد وصل.
أبو غزالة، الذي تحدث مبكرًا عن الذكاء الاصطناعي وأتمته الوظائف والتعليم الرقمي، قرأ المستقبل بعين الخبير لا المتفرج. لم يكن فقط رجل اقتصاد، بل رجل دولة، بل رجل مرحلة، يفهم السياسة الدولية، ويتقن اللغة التي تُحكى بها خلف الأبواب المغلقة.
إن أي حدث أو مبادرة يطلقها الدكتور طلال أبو غزالة، تستحق أن تُحتفى بها، لأننا أمام ثروة قومية يجب أن نصونها ونحميها من حملات التشكيك العابرة، ومن أقلام السوء التي لا تدرك قيمة القامات حين تتطاول عليها.
التقيته وكان قلبه مفتوحًا كقلب الكبار: متواضع، عفوي، مستمع جيد، وناصح صادق. وهذا ليس غريبًا على رجل بنى إمبراطورية معرفية ولم يفقد إنسانيته، ولا تواضعه، ولا بوصلته الأخلاقية.
ستبقى، يا دكتور طلال، رمزًا نعتز به، وقامة اقتصادية عربية لن تتكرر.
Comments