بيروت - بيروت تايمز – تحقيق اخباري من اعداد الاعلامي جورج ديب
في زمنٍ تتبدّل فيه خرائط النفوذ وتتهدّد الهويات، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا في الشرق الأوسط: أيّ مستقبل ينتظر الوجود المسيحي وسط عواصف الصراعات والتحوّلات؟
من بيروت ودمشق والقدس، مرورًا بعمان وبغداد وصولًا إلى القاهرة، يتصدّر هذا السؤال الهمّ الوجودي والسياسي في لحظةٍ يتناقص فيها الحضور المسيحي بشكلٍ مضطرد، وتتفاقم الانقسامات الطائفية، حتى بات البقاء في الأرض رهناً بالتوازنات الإقليمية، لا حقًا مضمونًا بحكم الانتماء والجذور.
في مواجهة هذا التحدّي المصيري، تجدّد مصادر كنسية خاصة لـ "بيروت تايمز" التذكير بأنّ الكنائس الشرقية، وفي طليعتها الكنيسة المارونية، إلى جانب الفاتيكان، تخوض معركة صامتة ولكن مصيرية من أجل تثبيت الحضور المسيحي في الشرق، لا كأقلية تبحث عن حماية ظرفية، بل كركن أصيل من هوية المنطقة وركيزة لرسالتها الحضارية.
إنّ المسألة المسيحية في الشرق ليست مجرّد شأن ديني أو طائفي، بل قضية حضارية تتّصل مباشرة بمستقبل التنوّع الثقافي والإنساني في هذا الجزء الحيوي من العالم، فالمسيحيون، تاريخيًا، كانوا شركاء أصيلين في صياغة هوية المشرق، من اللغة إلى الفكر، ومن العمران إلى السياسة، ومن الثقافة إلى التعليم.
لكن التحدّي اليوم أعمق من مجرد حماية جماعات مهددة؛ إنه رهان على بقاء نموذج الشرق المتعدّد، في وجه صعود الانغلاق والأحادية والهجرة القسرية، فغياب المسيحيين عن الشرق لن يكون فقط خسارة عددية، بل اهتزازًا كبيرًا لميزان التوازنات الحضارية التي شكّلت هوية هذه المنطقة على مدى قرون مضت.
لهذا، لا بد من مقاربة هذا المِلَفّ برؤية تتجاوز الشعارات، نحو تثبيت جذور المسيحيين في أرضهم، وتأمين حقوقهم المدنية، وتعزيز حضورهم السياسي والثقافي، وضمان عدم تحوّلهم إلى مجرّد ديكور فولكلوري في أوطانهم التاريخية.
من بيروت إلى العالم، يبقى صوت "بيروت تايمز" ملتزمًا بهذه القضية، صوتًا للحقيقة لا يساوم، وضميرًا حيًّا لكلّ من يؤمن بأنّ إنقاذ ما تبقّى من الوجود المسيحي في الشرق، الذي هو جزء لا يتجزّأ من إنقاذ الشرق نفسه من ضياع هويته وتنوّعه.
الكنائس الشرقية والفاتيكان: من الحماية إلى بناء الرسالة
في ظلّ التحوّلات الجيوسياسية المتسارعة التي تضرب عمق الشرق الأوسط، يتّجه النظر مجددًا إلى الدور التاريخي الذي تضطلع به الكنائس الشرقية والفاتيكان في حماية الحضور المسيحي، ولا سيّما في لبنان وسوريا والقدس والاردن ومصر والعراق، حيث تتقاطع التهديدات بين الهجرة، التهميش، وانهيار التوازنات الطائفية الهشّة.
الفاتيكان لم يتخلَّ يومًا عن الشرق عبر دبلوماسيته الهادئة، عمل على حماية النموذج اللبناني، وتثبيت الحضور المسيحي كـ "جسر حضاري" لا كأقلية تطلب الحماية. من البابا يوحنا بولس الثاني الذي قال: "لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة"، إلى البابا لاوون الرابع عشر الذي يواصل رفع الصوت لأجل "الشرق الرسولي"، شكّلت الإرشادات البابوية خريطة طريق للمسيحيين نحو الصمود لا الهجرة، والانخراط لا الانكماش.
البابا لاوون الرابع عشر جدد قربه من مسيحيّي الشرق الأوسط
بعد تفجير كنيسة مار إلياس الأرثوذكسيّة في دمشق، شعر البابا لاوون الرابع عشر بحزنٍ عميقٍ. وعبَّر عن تضامنه مع جميع المُتأثّرين بالمأساة، وأكّد أنّه يُصلّي لراحة أنفس مَن فقدوا حياتهم ولتعافي المصابين. وفي المقابلة العامة الأسبوعية في 25 يونيو/حزيران عبّر عن قربه والكنيسة مجتمعةً من مسيحيّي الشرق الأوسط.
واعتبر أنّ هذا الحدث المأسوي يعيد إلى الأذهان الهشاشة الكبيرة التي تطبع سوريا. وأشار إلى ضرورة ألّا يغضّ المجتمع الدولي نظره عن هذه البلاد، بعد أعوام من الصراعات وانعدام الاستقرار. وأكّد وجوب متابعة تقديم المساعدة إلى سوريا من خلال التضامن والتزام السلام والمصالحة. وشدّد على أن "الكنيسة بحاجة إلى الشرق وكم هو عظيم الإسهام الذي يمكن أن يقدّمه المسيحيون الشرقيون لنا اليوم"، مشيرًا إلى أن الروحانيات الشرقية هي "دواءٌ شافٍ" للبشرية يعيد الاعتبار لقيم التلاقي والرحمة في عالم متصدّع.
وخلال لقائه رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون، قال الحبر الأعظم إنّه سيكون دائمًا إلى جانب لبنان وأهله، إلى أيّ طائفة انتموا. وأكّد أنّه سيعمل لأجل ما يُحقّق تطلّعات اللبنانيّين في وطن آمن ومستقرّ وواحة أمل وفرح وسلام.
بطاركة الشرق: صوت الضمير في زمن الانقسام
تجاوزت الكنيسة المارونية وسائر الكنائس الشرقية منذ عقود الدور الروحي الصرف، لتُصبح صمّام أمان وطني يسعى إلى استنهاض الوعي الجماعي وصياغة المصالحات الداخلية. من البطريرك الحويك إلى البطريرك الراعي، حافظت البطريركية المارونية على نبرة ثابتة تجمع بين الالتزام الكنسي والانخراط العقلاني في الشأن العام، دفاعًا عن لبنان التعددي الحرّ، ذي الوجه العربي المشرقي، لا المنعزل أو الطائفي.
لم تقتصر مواقف البطاركة على الداخل اللبناني، بل خاطبوا المجتمع الدولي والعواصم المؤثّرة، مطالبين بتحمّل مسؤولياتها تجاه حماية التنوّع الديني والثقافي في الشرق، وداعين إلى دعم مشاريع التربية، والصحة، والحوار، باعتبارها وسائل صمود لا مظاهر عزلة.
الهجرة: جرح الهوية والخيبة
رغم الجهود الكنسية والبابوية، تتواصل هجرة المسيحيين من الشرق بوتيرة مقلقة، مدفوعة بعدة أسباب هيكليّة وعاطفية:
- غياب الأمن والاستقرار السياسي
- تدهور الوضع الاقتصادي والخدمات الاجتماعية
- الشعور بالتهميش داخل الأنظمة
- تغيّرات ديموغرافية قسرية، لا سيما بعد النزوح من العراق وسوريا
هذه العوامل مجتمعة تعبّر عن أزمة بقاء وهوية، إذ يُنظر إلى المسيحيين في بعض الدول كـ "ضيوف طارئين"، لا كشركاء أصيلين في بناء المستقبل.
من الحقوق إلى الشراكة... ومن الدفاع إلى الاستثمار
أزمة المسيحيين ليست أزمة أرقام، بل أزمة دور ورؤية ورسالة. المطلوب ليس فقط الدفاع عن الوجود، بل تجديد الحضور والانخراط في مشروع الدولة، لا كطائفة بل كمكوّن تأسيسي يحمل رسالة إنسانية في التعليم، الإعلام، الاقتصاد، والمجتمع المدني.
كما كان الحال في عصر النهضة، حين لعب المسيحيون الموارنة وغيرهم دورًا بارزًا في الصحافة، الثقافة، الحقوق، والتعليم، فإن اللحظة الراهنة تستدعي خطابًا جديدًا – لا طائفيًا ولا انعزاليًا – بل منفتحًا على المواطنة والشراكة.
خارطة طريق للمستقبل المشرقي
لتحويل هذا الحضور إلى مشروع حضاري حيّ، يقترح التقرير:
- الاستثمار في التربية والثقافة: عبر مدارس وجامعات تنشر قيم الحوار والتعددية
- تعزيز خطاب الشراكة بدل الحماية: لاعتبار المسيحيين مكوّنًا مؤسسًا لا أقلية مهددة
- الانخراط في القضايا العامة: عبر مبادرات إنسانية وصحية وتعليمية
- الدفاع عن التعددية: باعتبارها خيارًا حضاريًا لا ترفًا سياسيًا
- توجيه الخطاب الكنسي نحو الإنسان: لمرافقة الناس في قضاياهم اليومية لا مجرد إدارة الشأن الروحي
بيروت تايمز: نداء مشرقي متجدّد
انطلاقًا من موقعها كمنبر ثقافي سياسي وتحليلي واخباري، تؤكّد "بيروت تايمز" أن المسألة المسيحية في الشرق ليست شأنًا خاصًا، بل قضية ترتبط بهوية المشرق وصورته المستقبلية في عالم تتصارع فيه مشاريع التهميش والتقوقع، وإن الدور الذي أدّته الكنائس الشرقية والفاتيكان في صون التعددية المشرقية، يبقى حاجةً مُلحّة اليوم، ليس فقط للمسيحيين، بل لكل الشرق، كي لا يتحوّل إلى مساحة أحادية تُفرغ من عمقها الحضاري.
في هذه اللحظة الدقيقة، المطلوب الانتقال من خطاب الحقوق إلى خطاب الشراكة، ومن الدفاع عن الوجود إلى الاستثمار في الإنسان، ومن الحنين إلى الأمس إلى صناعة الغد.
Comments