تحقيق اخباري موسّع - بيروت تايمز - إعداد الإعلامي: جورج ديب
في مشهد بات مألوفًا في الشرق الأوسط، حيث تُستهلك الأخبار بين صفقات السلاح والنفط وخرائط التحالفات، تصدح من قلب جبل العرب صرخة لا تحمل توقيعًا سياسيًا ولا شعارًا حزبيًا، بل نداءً أخلاقيًا وإنسانيًا عاجلًا من مطرانية بصرى حوران وجبل العرب والجولان للروم الأرثوذكس. نداءٌ يُجسّد مأساة شعب في السويداء تُرِكَ وحيدًا يواجه الجوع والعطش والمرض، وسط حصار خانق وانهيار شامل لمقومات الحياة.
بيان المطرانية: وثيقة إنسانية
في هذا السياق، جاء بيان المطرانية الأرثوذكسية، الصادر عن المطران أنطونيوس سعد، راعي أبرشية بصرى حوران وجبل العرب والجولان للروم الأرثوذكس، كصرخة مدويّة: “يا إخوتنا في الإنسانية، إن محافظة السويداء، والتي تضم أكثر من 300 ألف عائلة، تعاني حالياً من حالة اختناق حقيقي، فلا ماء، ولا كهرباء، ولا دواء، ولا غذاء…”
في هذه الكلمات القليلة، رسم المطران سعد صورة قاتمة للوضع المتدهور داخل المحافظة الواقعة جنوب سوريا، والتي تعيش ظروفًا معيشية قاسية غير مسبوقة في ظل غياب أبسط مقوّمات الحياة.
انهيار صحي واجتماعي واقتصادي متزامن
البيان أشار بوضوح إلى أن ما يحدث في السويداء ليس مجرد أزمة عابرة، بل كارثة إنسانية بكل المقاييس، مؤكداً أن المواطنين هناك يواجهون شبح العطش والجوع والمرض في وقت واحد، دون أن تتوفر لهم أي وسيلة للنجاة أو الدعم. وناشدت المطرانية المجتمع الدولي، والمنظمات الإنسانية، وجميع الجهات المعنية بقولها: “افتحوا المعابر الإنسانية، ساهموا في إنهاء هذا الحصار”. وهو نداء يُعبّر عن حجم الألم الذي يعيشه الأهالي، كما يُبرز الانقطاع التام الذي فُرض على المحافظة، في ظل استمرار تدهور الأوضاع الخدمية والمعيشية.
أكثر من 300 ألف عائلة تقبع اليوم تحت وطأة أزمة مركبة: المستشفيات تعمل في ظروف شبه ميدانية، بلا كهرباء أو مياه، فيما تفتقر الأقسام الحيوية إلى المواد الإسعافية والمضادات الحيوية. وتزداد حالات النزوح الداخلي، في ظل غياب دور فعال للمرجعيات الروحية والسياسية. والمعابر تُغلق أمام شريان حياة يعتمد على تحويلات المغتربين وعلاقات تجارية محدودة مع الأردن. السويداء لا تُحاصر فقط جغرافيًا، بل تعيش عزلة سياسية مقصودة. إذ يُنظر إلى موقفها التاريخي الرافض للتسلّح والاصطفافات على أنه خروج عن المألوف، وكأن الحياد بات جريمة.
سياسة الحياد الحذر
منذ اندلاع الحرب السورية في 2011، التزمت محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية سياسة الحياد الحذر. لم تنخرط الطائفة في صراعات الطوائف ولا مشاريع الانفصال، بل تمسّكت بأرضها ومجتمعها ومؤسساتها. غير أنّ هذا الحياد، الذي كان يفترض أن يكون صمّام أمان لها، تحوّل إلى عبء سياسي وإنساني باهظ. على مدار سنوات، واجهت السويداء حصاراً اقتصادياً وأمنياً ممنهجاً تمثل بقطع الكهرباء والمياه، وحصار المحروقات والأدوية، وترك الطرقات الرئيسة للفوضى والخطف والسلاح المنفلت. تاريخياً، شكّل دروز جبل العرب قوّة توازن روحي ومدني في قلب المشرق، لا تسير خلف أحد ولا تجرّها المصالح الخارجية. هذا الاستقلال التاريخي عن مراكز القرار في دمشق وعمّان وتل أبيب وبيروت، جعلهم دوماً في مرمى محاولات الإقصاء أو الاحتواء أو حتى الإلغاء التدريجي.
في حديث خاص إلى بيروت تايمز، تقول إحدى السيدات من السويداء: "لم نعد ننتظر شيئًا لا من الدولة ولا من المعارضة ولا من الغرب. الكهرباء تُقطع لعشرة أيام متواصلة. المياه تصلنا عبر صهاريج بأسعار خيالية. الخبز في السوق السوداء. الأدوية مفقودة. نعيش كأننا في قبر مفتوح تحت الشمس".
فيما يقول شاب عشريني: "حتى البنزين اللازم لنقل جثمان من يموت منّا لم يعد متوفرًا. ندفن بعضنا كما فعل أجدادنا، بانتظار رحمة السماء". هذه ليست روايات فردية بل يوميات محافظة تُدفَع نحو الموت البطيء تحت عنوان الحياد.
مواقف المسؤولين الدروز في لبنان وسوريا بشأن أحداث السويداء
في ظل تصاعد الأحداث في السويداء، برزت مواقف عدد من القيادات الدرزية في لبنان وسوريا، حيث عبّروا عن رفضهم للتدخلات الخارجية ودعوا إلى حلول داخلية تحفظ وحدة البلاد وتضمن حقوق الأقليات.
وليد جنبلاط، الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي، شدد على ضرورة تحكيم العقل قبل الانفعال، مؤكداً أن السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا، ومديناً الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا ولبنان، كما دعا إلى تشكيل لجنة تحقيق مستقلة لكشف الجرائم المرتكبة بحق أهالي السويداء والبدو.
شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان، الشيخ سامي أبي المنى، اعتبر أن ما يحصل يسيء للجبل والدولة، مشيراً إلى أن قلق الأقليات لا يُعالج إلا بعدالة الأكثرية، ورافضاً أي حماية إسرائيلية تحت أي ذريعة.
طلال أرسلان، رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني، عبّر عن رفضه لما وصفه بـ"الطعنة الموجهة إلى كل شريف في الجبل"، داعياً إلى وحدة الصف الدرزي بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة، ومطالباً باستعادة صلاحيات رئيس الجمهورية لضمان المحاسبة. أما وئام وهاب،
رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب، فقد أكد أن الدروز من الجبل وللجبل، منتقداً أداء الدولة اللبنانية ومشدداً على أن سوريا ستبقى قبلتهم الثالثة، داعياً إلى إعادة النظر بجهاز قوى الأمن الداخلي ورفض تحويل دماء أبناء الجبل إلى سلعة سياسية.
أما في سوريا، فقد تباينت مواقف شيوخ العقل الثلاثة في السويداء، وهم يوسف جربوع، وحمود الحناوي، وحكمت الهجري، تجاه الحكومة السورية الجديدة بعد سقوط نظام بشار الأسد. الشيخ يوسف جربوع، المعروف بدوره الوسيط في تسوية النزاعات القبلية، أعلن هدنة جديدة مع دمشق ودعا إلى تشكيل لجان مراقبة تضم ممثلين عن الدولة ووجهاء محليين لرصد الانتهاكات، كما أيد التنسيق مع الإدارة الذاتية الكردية.
في المقابل، رفض الشيخ حكمت الهجري اتفاق وقف إطلاق النار مع الحكومة، مؤكداً على ضرورة الاستمرار في الدفاع المشروع حتى تحرير كامل تراب السويداء، ورافضاً تسليم السلاح من دون إرادة المجتمع. أما الشيخ حمود الحناوي، المعروف بمواقفه الوسطية، فقد دعا إلى الحوار الوطني والحفاظ على السلم الأهلي، مشدداً على ضرورة ضبط السلاح عبر مؤسسات الدولة ورافضًا التدخل الأجنبي في سوريا، فيما لم يصدر عنه تعليق رسمي بشأن الأحداث الأخيرة بسبب وضعه الصحي.
وتأتي هذه المواقف في ظل مواجهات دامية شهدتها السويداء بين عشائر وفصائل محلية، أسفرت عن مقتل المئات، وسط تدخل القوات السورية ومحاولات لفرض وقف إطلاق النار، في وقت تتزايد فيه الدعوات إلى حماية دولية مؤقتة وضمانات لحقوق الأقليات في سوريا الجديدة.
السويداء اليوم ليست مجرد محافظة سورية، بل تمثل نموذجًا فريدًا للتماسك الطائفي والهوية الثقافية، حيث يشكل الدروز أكثر من 90% من سكانها. وقد أدّت السويداء دوراً مفصليًا في الثورة السورية الكبرى (1925–1927) بقيادة سلطان باشا الأطرش، ما رسّخ مكانة الدروز كفاعل وطني رغم قلة عددهم. هذا الإرث الوطني يتناقض اليوم مع محاولات عزلهم كطائفة انفصالية، وهو ما يرفضه معظم قادة الطائفة الذين يرون في ارتباطهم بوطنهم جزءاً من هويتهم، لا من مشروعهم السياسي.
أما الانقسام الداخلي بين المرجعيات الدينية والسياسية للطائفة فهو يفاقم المأزق. فبين شيخ عقل يحلم بالاستقلال ورعاية دولية، وآخر يدعو للتهدئة والاندماج بالدولة، وثالث يقف في منطقة حياد هشّة، بات واضحاً أن غياب القيادة الموحدة يمنع ولادة أي مشروع جامع. بعد اغتيال الشيخ وحيد البلعوس عام 2015، تفككت حركة "رجال الكرامة" إلى فصائل متباينة، بعضها يميل إلى الحكم الذاتي، وبعضها إلى التعاون مع دمشق.
فكرة الحكم الذاتي أو الاستفتاء تواجه رفضاً قاطعاً من دمشق التي تراها تمرداً على وحدة الدولة، فيما تراها النخب الدرزية تعبيراً مشروعاً عن هوية مهددة. ومع اشتراط الدستور السوري الجديد أن يكون الرئيس مسلماً، واعتماد الفقه الإسلامي مصدراً أساسياً للتشريع، تتفاقم هواجس الأقليات وعلى رأسها الدروز، رغم أن القانون الدولي يجيز تقرير المصير الداخلي، إلا أن هشاشة الوضع السوري تحوّل هذا المسار إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر.
الاقتصاد المحلي في السويداء هشّ، يعتمد على الزراعة التقليدية من عنب وزيتون وقمح، ويفتقر إلى أي موارد إنتاجية استراتيجية أو منفذ تجاري مستقل، حيث يمثّل المعبر الحدودي مع الأردن شريان الحياة الاقتصادي. أي محاولة استقلالية ستعني عزل المحافظة اقتصادياً بالكامل، خصوصاً مع محاولات إسرائيل لاستثمار الأزمة عبر تصاريح عمل للدروز في الجولان المحتل برواتب مغرية، ما يفتح الباب أمام الابتزاز الاقتصادي المشروط بالولاء السياسي.
على المستوى الإقليمي والدولي، تتضارب المصالح حول السويداء. إسرائيل تنظر إليها كحزام أمني تقليدي وتسعى لاستثمار الملف الدرزي كورقة ضغط. الولايات المتحدة تبدو مترددة، تخشى التورط العميق لكنها لا تهمل أهمية استقرار الجنوب السوري. الحكومة السورية بقيادة أحمد الشرع تعتبر أي تحرك نحو الحكم الذاتي تهديداً مباشراً لوحدة الدولة ولا تتردد في استخدام القوة، كما فعلت خلال عملية يوليو 2025. الأردن يراقب بحذر خوفاً من فوضى تهريب جديدة على حدوده.
في المحصّلة، ما يحدث في السويداء ليس أزمة محلية بل اختبار حاسم لمستقبل الدولة السورية: هل تنجح دمشق في إعادة إنتاج نفسها كمرجعية شرعية؟ هل يستطيع الدروز تفادي الاستدراج إلى لعبة المحاور؟ هل تتحول السويداء إلى نموذج فيدرالي أم إلى بداية تقسيم فعلي غير معلن؟ وسط هذا المشهد يبقى نداء المطرانية وصرخة الجبل وثيقة أخلاقية وسياسية تذكّر بأن الصراع ليس فقط على الأرض بل على معنى الوطن.
تهميش ممنهج
التقارير الحقوقية توثق منذ سنوات التهميش الممنهج الذي تتعرض له السويداء من تضييق اقتصادي، وتهديدات أمنية متنقلة، ومحاولات دفع الشباب نحو الهجرة، وحرمان من التنمية والاستحقاقات. في لبنان، ورغم مواقف المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز وبياناته المتكررة التي حمّلت دمشق والدول الإقليمية المسؤولية، يبقى الواقع أن الصوت الدرزي من بيروت بلا تأثير حقيقي، محصور بالتضامن الإعلامي والرمزي. يعود هذا إلى تراجع الوزن السياسي للطائفة في لبنان وانشغال الزعامات بصراعاتها الداخلية، إضافة إلى تحوّل جبل العرب إلى مِلَفّ سوري داخلي معقّد لا تسمح التوازنات القائمة بتدويله.
رغم الاعتراف بالعجز، لا يزال كثيرون يرون في الإبقاء على هذا الصوت، مهما كان خافتاً، ضرورة حتى لا يشعر دروز سوريا أنهم تُركوا وحيدين. من جهتها، إسرائيل تحاول التسلل تحت غطاء إنساني لتقديم مساعدات لبعض الفصائل، سعياً إلى نفوذ أمني مستقبلي، مما يزيد من ضغط الحصار على أهالي الجبل. أما الكنيسة، فقد رفعت نداءها ليس كصوت مسيحي بل كصرخة إنسانية جامعة للدفاع عن حياة الإنسان قبل أي طائفة أو مذهب، محذّرة من خطر وجودي يهدد بقاء الجبل على خريطة سوريا.
السويداء اليوم لا تطلب امتيازات ولا تدعو إلى حرب، بل تطلب الحد الأدنى من شروط البقاء الإنساني: ماء، دواء، كهرباء، حرية تنقّل. وبينما يهرول العالم نحو مآسٍ جديدة، يبقى جبل العرب شاهدًا على أن الثَّبات وحده لا يكفي حين تخذله الضمائر. السويداء استغاثت... فهل لبّى أحد؟
Comments