بقلم فادي زواد السمردلي
#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال
المقال يصوّر حالة عامة، وأي تشابه عرضي مع أشخاص أو وقائع حقيقية غير مقصودة
ما حصل في انتخابات 2024 لم يكن مفاجئًا لمن يعرف خريطة المزاج العام، فقد كانت المؤشرات تتوالى منذ أشهر ، وما بدا للبعض صدمة لم يكن إلا نتيجة طبيعية لواقع داخلي مأزوم تعيشه بعض الأحزاب التي استمرت في إدارة نفسها وكأن شيئًا لم يتغير، وكأن الشارع ما زال كما هو، والمجتمع لم ينضج، والوعي لم يتطور، فالنتائج الأخيرة ليست مجرد أرقام بل رسالة واضحة تقول إن كثيرًا من الناس لم يعودوا يثقون في شعارات تردد ، ولا في وجوه تتكرر كل موسم، ولا في وعود لا تنفذ.
الفشل الانتخابي لم يكن بسبب صعوبات خارجية، بل بسبب خلل داخلي عميق في فهم التحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فبعض الأحزاب دخلت المعركة بأساليب قديمة، وخطاب كلاسيكي، وتحالفات هشة معتمدة على "دعم وهمي خفي"، وأسماء لم تعد قادرة على إقناع الشارع بأنها تمثله، ليس لأنها لا تمتلك التاريخ أو التجربة، بل لأنها لم تطور أدواتها، ولم تراجع خطابها، ولم تجدد آلياتها، ولم تصغِ لما يقوله الناس الناصحين سواء داخل الحزب او في الشارع أو على وسائل التواصل أو حتى داخل بيوتهم، فظنّت أن المشهد ما زال قابلًا للتكرار، ففوجئت بأن الزمن تغيّر.
الأزمة لا تبدأ ولا تنتهي عند عدد المقاعد التي حصلت عليها هذه الأحزاب، بل تتجاوز ذلك بكثير، هي أزمة تنظيم أولًا، أزمة فكر ثانيًا، وأزمة قيادة ثالثًا، أحزاب كثيرة أصبحت تدار كأنها مكاتب إدارية لا كيانات تغييرية، لا نقاش داخلي حقيقي، ولا تداول في المواقع، ولا رؤية مشتركة بين القيادة والقواعد، بل استنساخ مستمر لنفس البنية، ونفس العلاقات، ونفس العقليات التي لا تؤمن بأن التغيير ضرورة داخلية قبل أن يكون مطلبًا شعبيًا.
مشاكل التنظيم الداخلي أصبحت جزءًا من المشهد اليومي، فالهياكل تترهل بمرور الوقت، والكفاءات تُهمّش، والشباب يُحاصرون بلجان هامشية لا تؤثر ولا تُستشار، وبينما يهرب آلاف من الطاقات إلى المجتمع المدني أو الهجرة أو الصمت، وتصر بعض القيادات على أن المشكلة في الناس لا في الحزب، وفي الإعلام لا في الرسالة، وفي التمويل لا في غياب المشروع، هذه الرؤية العاجزة لا تستطيع أن تبني شيئًا جديدًا، لأنها ببساطة لا ترى نفسها بحاجة إلى البناء من الأساس.
الخطاب السياسي لبعض الأحزاب ما زال عالقًا في جُمَلٍ خشبيةٍ لا تصل إلى أحد، وكأن هناك جمهورًا وهميًا يسمعهم ويتفاعل معهم، بينما الناس تمضي في اتجاه آخر، تبحث عن خطاب حقيقي، عن لغة تحاكي الواقع، عن من يملك الجرأة ليقول "نحن أخطأنا" ويقدّم تصورًا جديدًا، عن مشروع يمكن أن يلمسه المواطن في حياته اليومية، في عمله، في مدرسته، في مستشفاه، أما الشعارات الكبرى فهي لم تعد تثير إلا السخرية أو الحنين، وكلاهما لا يُنتج أصواتًا في صندوق الانتخابات.
أما العلاقة بالإعلام فهي مأساة أخرى، في الوقت الذي تغير فيه كل شيء، من طريقة تلقي الناس للمعلومة إلى طبيعة التفاعل مع الأحداث، ما تزال بعض الأحزاب تتعامل مع الإعلام كأنه لوحة إعلانات حزبية لتلميع الشخوص ، لا كمساحة حقيقية للتأثير والتواصل، تجاهلت تمامًا أهمية الصورة، واللقطة، والرسالة الموجزة، واللغة الرقمية التي أصبحت تصنع الرأي العام، فغابت عن الشاشات، واختفت من النقاشات، ولم يعد الناس يشعرون بوجودها إلا حين تصدر بيانًا باردًا لا يقرؤه أحد.
السبب الأهم لكل ما سبق هو غياب البوصلة، فبعض الأحزاب لا يبدو أنها تعرف حقًا ماذا تريد، هل تسعى إلى تغيير حقيقي أم إلى الحفاظ على موقع سياسي؟ هل هي في صف الناس أم في صف المراكز؟ هل لها برنامج أم مجرد قائمة شعارات؟ حين تُسأل عن أولوياتها، لا تجد عندها جوابًا واضحًا، تتنقل بين القضايا بحسب اللحظة، ترفع شعارًا جديدًا كل موسم، وتخوض معارك موسمية لا تنتهي، بلا هدف واضح، ولا تخطيط مسبق، ولا تحليل عميق، وكأن قراراتها تُصنع تحت الضغط لا في ضوء رؤية واضحة.
التحالفات السياسية واحدة من أكثر الأمور التي تكشف عمق الأزمة، فكم من اتفاق عُقد على عجل وانهار بعد أيام، وكم من تحالف كان قائمًا على عدد المقاعد لا على تقاطع البرامج، وعلى مصلحة لحظية لا على مشروع طويل الأمد، هذه التحالفات لا تخلق ثقة، ولا تُنتج استقرارًا، بل تُعمّق من مشاعر الإحباط عند الناخب الذي يشعر أن اللعبة لا تقوم على المبادئ بل على الصفقات.
الجانب الشبابي هو الأكثر إهمالًا رغم أنه الأهم، فمعظم الشباب لا يجد نفسه ممثلًا في هذه الأحزاب، لا من حيث اللغة، ولا من حيث الشكل، ولا من حيث الخطاب، يشعر أنه في وادٍ، والقيادة في وادٍ آخر، وكلما حاول أن يُبادر قوبل بالتحجيم أو التجاهل أو التهميش، فاختار الابتعاد أو العمل خارج الأطر الحزبية، وفي ظل هذا الغياب، لا يمكن أن نتحدث عن تجديد حقيقي، لأن الشباب هم المادة الخام للتجديد، وهم أيضًا جرس الإنذار عند الخطأ، وبعض الأحزاب أزالت هذا الجرس منذ زمن.
غياب الديمقراطية الداخلية والاعتماد على أساليب الديمقراطية الوهمية واحدة من أكثر المشاكل التي لا يتم التحدث عنها علنًا، رغم أنها أساس كل إصلاح، فبدون انتخابات حقيقية، وبدون محاسبة داخلية، وبدون شفافية في اتخاذ القرار، لا يمكن لأي حزب أن يدّعي أنه يمثل الناس، لأنه ببساطة لا يمارس ما يدعو إليه، كيف تطالب بعض الأحزاب بانتخابات نزيهة وهي لا تمارسها داخليًا؟ كيف تهاجم الاستبداد وهي لا تتحمل صوتًا مختلفًا داخل تنظيمها؟
حتى مسألة التمويل وادارته والتي يُفترض أن تكون شفافة، تحولت عند البعض إلى منطقة رمادية، لا أحد يعرف من أين يأتي المال، ولا كيف يُصرف، ولا من يقرّر الأولويات، وهذا يفتح الباب للشكوك، ويُضعف ثقة الناس بالحزب، لأن الغموض في المال يوازي الغموض في الموقف، والحزب الذي لا يشرح لمؤيديه كيف يُدار ماله، لا يستطيع أن يطلب منهم الثقة.
ثم هناك التاريخ، البعض يتعامل مع الماضي وكأنه سيف مسلط على الحزب، لا يُراجع ولا يُنتقد، مع أن كل تجربة سياسية فيها نجاحات وفيها إخفاقات، لكن الاعتراف بالأخطاء لا يُضعف الحزب بل يقوّيه، والمكاشفة لا تسيء للقيادة بل تفتح باب التصحيح، أما إنكار الواقع، فثمنه الفشل، والتاريخ لا يُنسى، لكنه يمكن أن يُفهم ويُستثمر، إن أراد الحزب أن يبدأ من جديد.
الخلاصة أن بعض الأحزاب لا تحتاج إلى إعادة تزيين الواجهة بل إلى إعادة بناء من الجذور، لا إلى خطاب جديد فقط بل إلى عقلية جديدة، لا إلى تحالفات أكثر بل إلى مشروع واضح، لا إلى نفي الفشل بل إلى الاعتراف به والعمل على تجاوزه، فالمجتمع تغيّر، والناس تغيّرت، ومن لا يتغير سيتجاوزه الزمن دون أن يشعر.
لقد انتهى زمن الشعارات التي بلا فعل، ومن لا يتغير الآن، لن يكون موجودًا في المشهد القادم.
Comments