بهية الحريري... ظلّ الرفيق وإرث الحريريّة المستمر
صيدا - بيروت تايمز - اعداد وتحرير منى حسن
بهية الحريري: صدى الذاكرة... وحضور الزعامة في زمن التحوّلات
في الحلقة السادسة من سلسلة "عظماء من بلادي"، تتوقّف بيروت تايمز عند محطّة مفصلية في سردية لبنان الحديث، حيث تلتقي السياسة بالوجدان، وتتشابك الذاكرة بالحاضر، في مسيرة امرأة لم تكن مجرّد شقيقة للرئيس الشهيد رفيق الحريري، بل كانت على الدوام شريكته في النضال، رفيقة دربه، وظلّه الحيّ في مسيرته الإنمائية والوطنية.
غير أن ما بعد 14 شباط 2005، لم يكن كما قبله. ففي 28 شباط من العام نفسه، حين وقفت بهية الحريري على منبر البرلمان اللبناني وأعلنت، بصوتٍ مفعم بالألم والموقف، إسقاط حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، دوّنت بجرأتها بداية مرحلة جديدة من التحوّلات الكبرى، ليس فقط في تاريخها الشخصي، بل في مستقبل الحريرية السياسية برمّتها.
من موقع الأخت الوفيّة والظلّ الحنون، انتقلت السيدة بهية الحريري بثبات إلى موقع الزعامة السياسية، لتغدو لاحقًا أقوى الأصوات النسائية وأكثرها صلابة وسط العواصف التي عصفت بلبنان، وحاملة الشعلة المتبقية من مشروع الرفيق في زمن التخبّط والتيه.
لكن بهية الحريري لم تقف عند حدود الحراسة الوفية للإرث. تجاوزت ذلك إلى أن تكون وجدان المشروع الحريري الحقيقي، وحلقة الوصل الحيّة بين ما مضى وما هو آتٍ.
حضورها السياسي لا يُختزل في المناسبات ولا في المواقف العاطفية فحسب، بل يظهر في أدوارها التربوية والاجتماعية والإنسانية، من صيدا إلى كل لبنان، وفي تمسّكها بثوابت جوهرها حماية التوازن الوطني والسلم الأهلي. وجعلت بهية الحريري من اسم "الحريري" عنوانًا للاستمرارية رغم الاغتيال، ورمزًا للتجذّر الوطني رغم الزلازل السياسية المتلاحقة.
قصر مجدليون وما يمثله من ارث حريري
لم يكن قصر مجدليون مجرد مقرّ لعائلة الحريري، بل محطة سياسية استقبلت شخصيات لبنانية وعربية ودولية، في لحظات مفصلية من تاريخ لبنان. من هنا مرّ رؤساء حكومات، سفراء، وموفدون دوليون، ناقشوا ملفات الحرب والسلم، والإعمار والانتخابات، وحتى اتفاقات الطائف وما بعدها.
في سنوات ما بعد الحرب، تحوّل القصر إلى مركز تنسيق سياسي واجتماعي، حيث كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري يستقبل الوفود ويطلق المبادرات. لاحقًا، واصلت السيدة بهية الحريري هذا الدور، فبات البيت مساحة للحوار، ومرجعًا في الأزمات، خصوصًا في الجنوب وصيدا.
واليوم، مع الحديث عن عودة الشيخ سعد الحريري إلى المشهد السياسي، يعود القصر إلى الواجهة، كرمزٍ لإرث سياسي يُراد له أن يُستكمل. فمجدليون لم يكن يومًا مجرد عنوان سكني، بل بيتًا للقرار، وللذاكرة، وللأمل. في زمن عزّ فيه الوفاء، بقيت "سيدة مجدليون" صوتًا راسخًا في وجدان جمهور رفيق الحريري، وبوصلة في زمن غاب فيه كثير من الرجال عن الساحات. والى الحوار الشيق:
بهية الحريري ومراسلة بيروت تايمز في لبنان منى حسن
إرث العائلة... ومسيرة البداية
لم تدخل بهية الحريري معترك السياسة برغبتها، بل دفعها شقيقها الرئيس رفيق الحريري إليه بثقة مطلقة. ورثت عن والدتهما ذاكرة قوية، فراسة، سرعة بديهة، ودقّة متناهية في التفاصيل. لم يكن خيار "إلقاء العباءة" على كتفيها عبثياً.
"أم نادر" دخلت الشأن العام من بوابة العمل التربوي والاجتماعي، حيث تولّت منذ 1979 إدارة مؤسسات الحريري، يوم كانت تُعرف باسم "المؤسسة الإسلامية للثقافة والتعليم العالي"، قبل أن تضع بصمتها في كل مشاريع التنمية بصيدا وجوارها، متحدّية الاجتياح الإسرائيلي وأهوال الحرب.
من صيدا إلى البرلمان... طريق النضال الوطني
لم تكن مشاريع الرئيس رفيق الحريري قابلة للتحقّق لولا عيون شقيقته على الأرض، ولا إرث صيدا يمكن صونه دونها. أدارت المعاهد، دعمت المستشفيات، تابعت شؤون الطلاب، وحملت هموم أبناء الجنوب المهملين.
عام 1992، دخلت البرلمان بلا طقوس انتخابية، بلا صور، ولا جولات تقليدية. أُنتخبت لأنّ سيرتها كانت تسبقها: ابنة صيدا، الأم، الشقيقة، الحاضنة، والمعلمة.
منذ ذلك اليوم، مثلت "سيدة مجدليون" صوت الوفاء لإرث الرفيق، وامتداد صوته إلى مجلس النواب ولجان التربية والثقافة، حيث عملت بهدوء وبُعد نظر، ثم تولّت وزارة التربية والتعليم العالي بين 2008 و2009.
صدمة 14 شباط... من الشقيقة إلى الزعيمة
لم تكن السيدة بهية الحريري تحتاج إلى شهادات تُثبت ارتباطها العضوي بشقيقها الشهيد. من يعرفها عن قرب يعلم أنها لم تقلب يوماً صفحة "الرئيس رفيق الحريري" من قلبها أو ذاكرتها. تزور ضريحه، تحدّثه، تستشيره في شأن العائلة كما في مصير الوطن.
التحوّل السياسي الأبرز جاء بعد اغتيال رفيق الحريري، يومها هزّت بهية البرلمان بإسقاط حكومة كرامي بصوتها، وحسمت معادلة الولاء: "نحن مع سعد"، رغم كل الضغوط. تحوّلت إلى "المرشد الأعلى" في الظل، بعقلانية ناضجة، وحنكة سياسية جعلت من صيدا محايدة في عزّ الانقسامات.
من كنف الأخ إلى حماية الإرث
لم تكن بهية الحريري يومًا هاوية سياسة. كانت تحترف صناعة الوفاء، لا المناورات. حافظت على علاقاتها المتوازنة، وعلى تماسك العائلة، وعلى روح العيش المشترك والوحدة والاستقرار في خطابها، يوم أوقفت الحرب الباردة بين سعد وخصومه.
مع الوقت، أطبقت على صيدا سياسيًا: من النواب، إلى رؤساء البلديات، إلى المفتي، الكل خرج من عباءتها. حافظت على موقعها، وحمت الإرث، وصارت صانعة القرار ومُخرجة التسويات.
صراع الداخل... ووفاء الخارج
عام 2017، يوم حاول البعض دفع آل الحريري إلى مبايعة بهاء بدل سعد، كان موقفها حاسمًا: "نحن مع سعد". ظلّت في الظلّ تدير أوراقها، تنتظر ساعة عودته، وتواصل العمل الاجتماعي في صيدا رغم اعتكافه.
اليوم، يُطرح اسمها كزعيمة سنّية أولى، بعدما كانت أول سنيّة تدخل البرلمان، وهي أقرب إلى رئاسة الكتلة النيابية، بانتظار نضوج القرار السياسي.
الحريريّة... قاطرة الأمل
لم تكن بهية الحريري تتحدّث عن شقيقها الراحل إلا بروح الحنين الممزوجة بالاعتزاز. أمام الطلاب كانت تقول: "رفيق الحريري وُلد في بيتٍ آمن بالعلم، في بيتٍ فقيرٍ يقدّس العمل والكرامة. كان يُساعد والده، يشتغل بالصيف لشراء كتبه، تعلم كيف يصنع الأمل من لا شيء، وكيف يجعل من الأزمة فرصة".
في حديث خاص مع بيروت تايمز، أكّدت السيدة بهية الحريري أن مشروع رفيق الحريري لا يزال حيًا، رغم الأزمات والتحديات. تقول:
"المشروع لم يكن يومًا شخصيًا، بل هو مشروع وطن. رفيق الحريري آمن بلبنان الدولة، لبنان الإنسان، ولبنان الرسالة. ونحن نكمل هذا الإيمان، مهما اشتدت العواصف."
وحين سُئلت: ماذا لو كان رفيق الحريري بيننا اليوم؟
أجابت بحزم: "لم نكن وصلنا إلى هذا الدرك. من قتله أراد قتل لبنان، لا قتله هو".
وعن صيدا، المحور الذي لا يغيب، تقول الحريري: "حمل الرفيق صيدا في قلبه وعقله، لم يغِب عنها يوماً، وما قدّمه لصيدا كان بوابة لكل لبنان".
وفي الذكرى العشرين لاغتياله، شددت على أن البيت الحريري لا يزال مفتوحًا للحوار، مؤكدة أن: "رفيق الحريري لم يكن زعيم طائفة، بل زعامة وطنية جامعة. من مجدليون إلى بيت الوسط، نحمل الأمانة ونفتح الأبواب للحوار، لا للانقسام."
هذه التصريحات، كما وثّقتها بيروت تايمز، تمنح البيت الحريري في مجدليون روحًا تتجاوز الحجارة، ليصبح مرآة لمشروع وطني لا يزال حيًا في الضمير اللبناني.
الأوسمة والشهادات
نالت بهية الحريري تكريماً واسعاً، أبرزها:
وسام الأرز الوطني برتبة ملازم أول.
وسام جوقة الشرف الفرنسي من الرئيس جاك شيراك.
الدكتوراه الفخرية من جامعة داندي البريطانية، والجامعة الأميركية للعلوم والتكنولوجيا، والجامعة اللبنانية الأميركية.
كلمة ختامية - منى حسن
بصفتي إعلامية نشأت على مرافقة هذه المسيرة، أقول بثقة: أنتمي إلى مدرسة رفيق الحريري، إلى قصر قريطم، إلى بيت الوسط، وإلى مجدليون، حيث عشت كصحافية تفاصيل نصف قرنٍ من الحدث اللبناني في كنف آل الحريري.
في قاعات مجلس النواب، كنّا ننتظر الرئيس رفيق الحريري كأننا ننتظر وطناً كاملاً، نعرف وصوله من انقطاع الإرسال عن هواتفنا. نهرع لرؤيته يبتسم للكاميرات، يُحيّي الصحافيين، ويخترق الحواجز الأمنية بودّ قلّ نظيره.
كانت السيدة بهية الحريري ظلّه، روحه، عضده، وها هي اليوم... ضميره الذي لم يمت.
Comments