bah صَوْتٌ لَا يَغِيبُ: أَبْلَةُ فَضِيلَةَ وَذَاكِرَةُ الأَجْيَالِ - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

صَوْتٌ لَا يَغِيبُ: أَبْلَةُ فَضِيلَةَ وَذَاكِرَةُ الأَجْيَالِ

07/27/2025 - 21:46 PM

Atlas New

 

كتبت الدكتورة علياء إبراهيم

 

في صباحاتٍ مضى عليها أكثر من نصف قرنٍ، حين كان الزمن ينساب بهدوءٍ على إيقاع البساطة، كان للصوت سحرٌ وأثرٌ على روحي وقلبي أنا، وأطفالِ أجيالٍ تربّت على صوت "الراديو". وما كان لهذا الصندوق إلا سِحرٌ آسِرٌ، حين كانت تصدر منه أصواتٌ تتجاوز الأذن ليتغلغل صداها في الروح.

في صباحاتٍ كانت تتسلل فيها أشعة الشمس الدافئة إلى غرفنا، كنا نلتف حول "الراديو"، ليس فقط لنقضي وقتًا، بل لنفتح ذراعينا للوقت نفسه، ليملانا بالدهشة والمعرفة، ويُثْري خيال أطفالٍ كانوا يستمعون كل صباحٍ إلى دقّات الساعة، في ترقّبٍ جميل. ليملأ المكان صوتُ امرأةٍ لا نعرف ملامحها أبدًا، لكننا نعرف أنها تجمعنا في برنامجها:

"غنوة وحدوتة…"

وهنا، كانت تبدأ رحلتنا اليومية إلى عوالم لا حدود لها.

فقد كانت صاحبة الصوت: أبلة فضيلة.

لم تكن "الأبلة" مجرد صوت؛ بل كانت، كما أرادت لنفسها، الأخت الكبرى… فـ"أبلة" في التركية تعني الأخت الكبرى التي ترعى، وتحنّ، وتُعلّم.

اختارت "أبلة فضيلة" هذا الدور بكامل وعيها، فاحتضنت الأجيال بصوتها، وسقتها من خيالها، دون أن ترفع إصبعًا أو تُعلّق لافتة تعليمية.

"غنوة وحدوتة" لم يكن مجرد برنامجٍ صباحي يلتف حوله الأطفال، بل كان ظاهرةً تربويةً فريدة، أرضًا خصبة للنمو اللغوي والوجداني والنفسي للأطفال، عبر أجيالٍ وأجيال، تجاوز صداه مصر إلى آذان وقلوب أطفال الوطن العربي بأكمله، زمنٍ كانت فيه الإذاعة المصرية هي الإذاعة الأولى في المنطقة…

وكانت اللهجة المصرية هي اللهجة المفهومة والمحببة في كل أرجاء الوطن العربي، كأنها موسيقى مألوفة تعبر الحدود دون جواز سفر.

كنا أطفالًا لا نفرّق بين الحقيقة والخيال بعد، كانت عقولنا صافية، وقلوبنا مفتوحة.

أبلة فضيلة كانت تكلّمنا. تحكي وتصمت، تتأمّل وتضحك؛ كانت تُجسّد بصوتها قصصًا كتبها عبد التواب يوسف، ونادر أبو الفتوح، وربما غيرهما، فتمنح الحياة لكلماتهم.

فكل نبرةٍ في صوتها، وكل همسة، كانت تغرس فكرةً في عقولنا الصغيرة. كأنها تعرفنا حقًا، تعرف أحلامنا ومخاوفنا.

كانت صاحبة صوتٍ دافئ يحيطنا بحنانه، بلا صورة أو قيود.

لم تكتفِ بالصوت، بل كانت تُضفي على الحكايات روحًا بالموسيقى والأغاني، وتُشرك الأطفال عبر رسائلهم، بل وتستضيف مشاهير في الاستوديو، لتُلهم طموحات الأطفال وتُوسّع آفاقهم.

في ذلك الزمن البسيط والساحر، لم تكن القيم تُلقَّن لنا، بل كنا نعيشها عبر "غنوة وحدوتة"، التي وَحّدتنا مع شخصيات الحواديت.

لم نكن نُجبر على تعلُّم القيم، بل تعلّقنا بها، لأنها كانت تسكن في شخصيات أحببناها في الحكاية، تجسّدت في أفعالهم وشجاعتهم، وهكذا، تسربت القيم إلى أرواحنا بسلاسة، كأنها جزءٌ من فطرتنا.

لقد نقل صوتُ أبلة فضيلة حواديتَ كتّابٍ تحمّلوا مسؤولية ترسيخ القيم في نفوسنا، ليزرع صوتها فينا شيئًا عميقًا وخالدًا، شيئًا ما زال ينبض في ذاكرتنا.

فهل كان ذلك أدبَ أطفالٍ بالمعنى الأكاديمي؟

ربما لم يُسمَّ كذلك في تلك الأيام، لكنه كان أدبًا متجاوزًا لزمنه، يُمهّد لمفاهيم التواصل الحديثة، محتوىً عميقٌ عبر وسائط تقليدية بسيطة للغاية، لكنها كانت فعّالة بشكلٍ مذهل.

كلامٌ يدخل من الأذن، ليغرس جذوره في القلب والعقل.

اليوم، حين نكتب القصص لجيلٍ جديد، أو نصنع الفيديوهات التعليمية، أو نحاول أن نُعلّم أي شيء، غالبًا ما نظن أننا نحتاج أدواتٍ معقّدة، وتقنياتٍ متطوّرة، لنَجذب الانتباه. لكن الحقيقة أننا نحتاج فقط لشيءٍ واحد، كان لدى بابا شارو، وأبلة فضيلة، وطنط سناء، وعمّو حسن، وكان كافيًا لكل ذلك وأكثر: الصدق.

أن تحكي للطفل بقلب المُحبّ له، الواعي باحتياجاته، لأن الصوت والكلمة، حين يمتزجان بالصدق والإخلاص، قد يكونان أهم وأقوى تأثيرًا من أيّ منهجٍ مكتوب، أو أيّ شاشةٍ برّاقة.

عزيزي القارئ، وقد أخذتك عبر نصف قرنٍ وأكثر مضى على طفولتي،

قد تسألني، وأنت تتأمل معي هذا الماضي الجميل: هل في ظلّ هيمنة الشاشات وسيادة الصورة، لا يزال الصوت قادرًا على التربية في عالمنا الصاخب هذا؟

أُجيبك بصدقٍ خالص، وبدون ادعاءٍ للمعرفة المطلقة: لا أعرف يقينًا كيف سيكون تأثيره الآن.

لكنني أؤمن أن بذرة الصدق التي زرعها ذلك الصوت — صوتُ أبلة فضيلة — الذي وإن غاب عن دنيانا، فبصمته محفورة في وجداننا، لا تزال قادرة على الإزهار في أي زمن، إن وجدت القلب الذي يرويها.

لكنني الآن، في هذه اللحظة، أعرف تمامًا أن في داخلي طفلةً صغيرة، ما زالت تحتفظ بصوتٍ دافئٍ لا ملامح له، صوتٍ يذكرها بأيامٍ جميلة.

ولا تزال هذه الطفلة التي تقبع في داخلي تبتسم، كلما تذكّرت تلك الكلمات الخالدة، التي كانت تأخذها إلى عوالم أبلة فضيلة، تلك الكلمات التي كانت بداية كل حكاية، والتي تصدح بها أصوات الأطفالٍ، وهم يردّدون كلماتٍ  المبدع صلاح جاهين، تصاحبها ألحان الموسيقار سيد مكاوي:

"يا وِلادُ يا وِلادُ… تعالَوا تعالَوا…

علشان نسمع أبلة فضيلة…

راح تِحكي لنا حكايةً جميلة…

وتُسلّينا وتُهنّينا…

وتُسمّعنا كمان أسامينا…

أبلة… أبلة فضيلة…"

 تلك الأغنية، بكلماتهاالبسيطة، ولحنها المحفور في وجداني ووجدان أجيال وأجيال، كانت هي البداية التي من خلالها أحببنا أبلة فضيلة-رحمها الله-  وقصصها وحكاياتها، التي كانت دائمًا تختتمها بجملتها الشهيرة:

"وتوتة توتة، خلصت الحدوتة".

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment