bah زياد رحباني لمَّ شمل آراء اللبنانيين - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

زياد رحباني لمَّ شمل آراء اللبنانيين

08/07/2025 - 19:54 PM

Atlas New

 

 

 

مارون سامي عزّام

 

الأمر العجيب في الرّحيل المفاجئ لزياد الرّحباني، هو تجنَّد الإعلام اللبناني بأكمله تحديدًا هذه المرة، للحديث عنه، مع إعلان وفاته في ساعات الصّباح الباكر، هذا التَّدَفق التلفزيوني دام لساعات طويلة، على مدى ثلاثة أيّام. وجدتُ قاسمًا مشتركًا بين رحيل زياد الرحباني وملحم بركات، فكلاهما رحلا بصمتٍ رهيب، لم يعلم جمهورهما أنّ وجهة قدرهما كانت صوب الرّحيل منذ فترة، وهُما اللذان سجّلا النُّوتات الموسيقيَّة في دفاتر الخلود، على أسطُر الإبداع، طُقوسهما اللحنيَّة فريدة، غير عاديَّة، نغماتها قصيرة، بسيطة ورنّانة.

اعتصرت ألحان زياد أوجاع النّاس، طرَقت أبواب همومهم بقوَّة، لم يخَف من السُّلطة، منتقدًا في الصّحف بحُريَّه تعبيره السياسيين الفاسدين، من خلال كتابة مقالاته اللاذعة، طالبًا منهم أن يرفَعوا خناقهم عن لبنان المتهالك على كافة الصُّعُد. بعد رحيله ارتاحوا من صوته الجارح "لكرامتهم"... لم يعرف زياد يومًا النّفاق، كان قائد رأي حقيقي ومؤثِّرًا جدًّا، جامعًا حوله جميع فئات الشّعب. لم تكن حياته الخاصّة من أولويّات شئونه، لم يُغطِّها بستار السريَّة، جعلها ملك العامّة، تحدَّث عن الخلافات العائليّة الدّاخليَّة، تحت رعاية وسائل الإعلام، التي تلاحق أي سبق كهذا!!

في حواراته كان يُدخِل روح النكتة، وهذا الأمر لاحظته في معظم لقاءاته التلفزيونيّة، ممّا قلَّل من قيمته الفنيَّة، هذه الدُّعابة اكتسبها من والدته. ابتعاده عن عائلة الرّحباني دام عامين، من أجل أن يتخلُّص من دائرة تأثيرها الفنّي على موسيقاه، ليُكوِّن له هويَّة فنيَّة مستقلّة، لئلّا يُقال إن نجاحه هذا عائد لبيت الرحابنة، مع أن خميرة أعماله الأولى، اختمرت على مكوِّنات رحبانية طاهرة. عندما حانت لحظة العودة لحضن العائلة، كان قد أنشأ مدرسة موسيقيّة خاصّة، فيها لمسات شرقيَّة وغربيّة، أصدر ألبومًا اسمه Monodose، لمُغنية اسمها سلمى، صوتها لا يصلُح للغناء.

لم يهتم زياد بحياة التَّرف، لم يبحث عن الجاه، الاكتفاء الذّاتي كان عنوانه الدّائم، عاش حياة زهد فنّي، لم يعشها أي فنّان قبله، مكتفيًا بقليل من المال، يوفِّر له مأكله ومشربه، ولتسيير معيشته اليوميَّة، رغم تلقّيه عروضًا بملايين الدولارات، لكنه رفضها، حتّى عندما كان يَعرِض مسرحياته، لم يتقاضَ أجرًا، وكان يقول للمنتج ادفع أجور الممثِّلين والفنيِّين. فضَّل زياد حريَّته، على القيود الماليَّة، وبقي رأس حربةٍ، لم تنثنِ أبدًا، ولم يَقبَل الخضوع لضغوط عائليَّة أو خارجيّة، بل استمرَّ على نهجيه الفني والسِّياسي، ملتزمًا بمبادئ الشيوعيَّة التي آمن بها.

في إحدى المقابلات سألوا السَّيِّدة فيروز عن رأيها بنجلها زياد، فأجابت بأهزوجة من الشعر العربي القديم، كانت ترددها لها والدتها:

يا حبّذا ريح الولد          ريح الخُزامى في البلد

أهكذا كلُّ ولَد              أم لم يلِد مثلي أحَد

أي ليس هناك أعز على الأم من ولدها، أمّا عن رأيها به كفنّان، فكانت تقول أنه عبقريَّة فنيَّة، استمدَّت ملامحها من طفولته، عندما كان والديه عاصي وفيروز، يصحبانه معهما وهو ما زال في أشهره الأولى، إلى التسجيلات، والبروفات، كانا يُجلسانه في الكواليس... أصبح نجمًا إعلاميًّا وهو ما زال يحبو، فملأت صوره الصحف والمجلّات بشكل دائم.

تابع زياد الطِّفِل مسيرة والدته لحظة بلحظة منذ تبلور وعيه على الحياة، كانت جدران غرفة الجلوس في منزلها، مليئة بصوره، بالإضافة لبعض الصور لإخوته، لشدَّة تعلُّقها به. قاد مسيرتها الفنيَّة بعد رحيل عاصي... أثناء غياب زياد الطّويل عن المنزل، سُئِلَ من كنتَ تفضِّل أن يُلحِّن لفيروز؟، أجاب دون تردد: "الفنان مروان خوري"، لأن أسلوبه اللحني قريب من صوتها.    

الإحباط الذي عاشه الموسيقار زياد، كان مُضاعَفًا، نتيجة أحداث السنة الأخيرة، التي أثَّرت كثيرًا على نفسيَّته، فجعلته يشعر بالفقدان، بأعقاب رحيل شخصيّات محوريَّة أحبها، كشخصية حسن نصرالله. زياد شديد الحساسيَّة لأي حدثٍ، فمعظم أغانيه نابعة من أحداث حقيقيَّة عاشها، مثل أغاني "شو هالإيام"، "مربى الدّلال"، "كيفك إنتَ" وغيرهم... رفض كل شيء يضيِّق على بلده الصّغير، وانغمس بمشاكله، داواها بفنِّه، قاومها بسلاح قلمه الحاد... يَعتَبِر زياد أغنية "نسَّم علينا الهوى" الأكثر صدقًا وطنيًّا، تُمثل لبنان الحقيقي، غنَّتها فيروز قبل اندلاع الحرب الأهليّة، في عام 1975، أمّا بقيَّة الأغاني الوطنيَّة التي جاءت بعدها، قال عنها أنّها مجرَّد تركيب كلام جميل، لا أكثر.

لجوء زياد للراحة، كان بقرار منه، رافضًا تلَقّي العلاج. عند تفاقُم المرض عليه، وحسب المقرَّبين من العائلة، لقد بدأ يتقرَّب منها مجدّدًا، متناسيًا المشاكل المعروفة، تصالح مع شقيقته ريما، عاد لغرفته في منزل والدته... قيامه بهذه الخطوات الإنسانيّة إذا جاز التَّعبير، كانت نتيجة سنِّه، وتطوُّر فكره المُسالِم، الذي ساهم برسم خطٍّ عاطفي تصاعُدي، فيه تسامح أخوي مع أفراد العائلة الرحبانيَّة.

في مسرحية "آخر أيّام فخر الدِّين"، قال فخر الدِّين: "النِّسر مش لازم يخَتْيِر، لازم يتْقَوَّس قواس، وما يوقع عالأرض..."، بمعنى يجب ألّا يُظهِر الفنّان ضعفه أمام غيره، بل يجب أن تبقى صورته تلمع حيويَّةً، هذا حال الفنّانين العظماء من أمثال زياد، الذين رحلوا وهُم في أوج وهجهم الإبداعي، أمثال: رشدي أباظة في عمر 53 عامًا، عبد الحليم حافظ 48 عامًا، عبد النّاصر 52 عامًا. زياد حالة خاصة، واستثنائيَّة، لم يسعَ وراء الألقاب، لأنّ قيمته الموسيقيَّة أهم بكثير، أرشيفه أصبح أيقونة كلاسيكيَّة، أزليَّة.

رحيل زياد رحباني فجَّر ينابيع الحب، التضامن والعزاء حول والدته، التف شريط الحزن حول العالم العربي، مُعلنًا الحداد على زياد. وسام الأرز الذي حصل عليه في مماته، يبقى مجرد مسرحيَّة تكريميَّة، لها مكاسب تافهة، تبييضًا لتقصير الدولة مع زياد كما مع غيره، لأن أعماله العظيمة هي التي كرَّمت لبنان على مدى نصف قرن، وسيبقى فوق الطوائف، نصير المستضعفين. 

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment