بيروت – بيروت تايمز جورج ديب
أطلق رئيس الجمهورية العماد جوزف عون رسالة مشحونة بلغة الأفعال، وهو يستعد للتوجه إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2025، رافعًا شعارًا سياسيًا ودبلوماسيًا لافتًا: "فكّ الحصار وتصويب المسار". هذه العبارة، التي ترددت في أوساط سياسية ودبلوماسية منذ أيام، لم تأتِ كشعار دعائي بل كمشروع سياسي عملي، يهدف إلى إعادة هيكلة دور لبنان على الساحة الدولية والمحلية، بعد سنوات من التهميش والانقسام.
في حديثه أمام وفود دبلوماسية زارته في القصر الجمهوري، قال عون بلهجة حاسمة: "لبنان ليس مفلسًا كما يُشاع، بل هو بلد مسروق، والمشكلة الحقيقية تكمن في غياب المحاسبة والفساد الذي استنزف مؤسساتنا. لن نقبل بعد اليوم بأي خطوط حمراء أمام القضاء، وسيحاسَب كل من عبث بالمال العام".
تأتي هذه المواقف في ظل التحضير لجملة من القرارات الداخلية التي وصفت بالمفصلية، أبرزها حصر السلاح بيد الدولة، وهو القرار الذي أكّد عون أنه "غير قابل للتراجع"، مضيفًا: "لا يمكن لأي مجموعة، أياً كان انتماؤها، أن تحمل السلاح خارج إطار الشرعية، ولا يمكن لأي طرف أن يبرر ذلك بذريعة مقاومة الاحتلال أو الاستقواء بالخارج"، في إشارة واضحة إلى الجدل الداخلي حول سلاح حزب الله، وإلى لقائه الأخير مع المسؤول الإيراني علي لاريجاني حيث شدد أمامه على رفض أي تدخل خارجي في الشؤون اللبنانية.
التحرك الدبلوماسي المرتقب في نيويورك يكتسب بعدًا استثنائيًا، إذ سيقود عون الوفد اللبناني الرسمي ويعقد سلسلة لقاءات مع قادة ومسؤولي دول، من بينهم الرئيس الأميركي، إذا تم الاتفاق على عقد اللقاء. الهدف، كما أوضح، هو "إعادة تثبيت موقع لبنان في الحاضنة الدولية واستعادة الثقة عبر الأفعال لا الأقوال". ووفق مصادر دبلوماسية لبنانية، فإن خطابه أمام الجمعية العامة سيحمل رسائل مباشرة حول التزام لبنان بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وخصوصًا ما يتعلق بانسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب، إضافة إلى دعوة لرفع القيود الاقتصادية والسياسية التي يصفها بـ"الحصار المفروض على لبنان".
في الداخل، لاقت مواقف عون انقسامًا سياسيًا واضحًا؛ القوى الداعمة لخط الإصلاح والحوكمة اعتبرت أن خطابه "يؤسس لمرحلة جديدة من استعادة السيادة وتحرير القرار الوطني"، بينما رأت أطراف أخرى، خصوصًا المقربة من حزب الله، أن طرح موضوع السلاح بهذه العلنية أمام الأمم المتحدة "يشكل رضوخًا للضغوط الأميركية والإسرائيلية". وعلى المستوى الشعبي، بدا أن خطاب "لبنان المسروق لا المفلس" لامس شعورًا عامًا بالإحباط من الفساد، مما أعاد بعض الزخم الشعبي لشخصية الرئيس الذي جاء من خلفية عسكرية وارتبط اسمه بالنزاهة والانضباط.
من الناحية السياسية، يعكس خطاب عون تحولًا ملحوظًا في علاقة لبنان بإيران؛ فبينما احتفظت طهران تاريخيًا بدور داعم لحزب الله كلاعب أساسي في المشهد اللبناني، جاء تصريح عون أمام لاريجاني ليضع قواعد جديدة للتعاون، محددًا أن أي دعم خارجي يجب أن يكون في إطار سيادة الدولة ومؤسساتها. هذا الموقف قد يفتح بابًا أمام إعادة صياغة التوازن بين نفوذ إيران في لبنان وبين سلطة الدولة، لكنه في الوقت نفسه يطرح تحديات، إذ أن حزب الله يرى في سلاحه عنصر ردع أساسي ضد إسرائيل، ويعتبر أي محاولة لحصره بيد الجيش خطوة تهدد استراتيجيته الدفاعية.
التداعيات المحتملة لما بعد خطاب نيويورك تعتمد على عدة سيناريوهات؛ في حال تمكن عون من كسب دعم دولي واضح لمشروعه الإصلاحي، قد نشهد ضغطًا متزايدًا على القوى الداخلية الرافضة لتسليم السلاح، وربما طرح صيغة تفاوضية تربط بين المساعدات الدولية ونزع سلاح الجماعات غير الرسمية. أما إذا قوبل خطابه بردود فعل فاترة أو سلبية من أطراف مؤثرة، فقد تجد الحكومة نفسها أمام تصعيد داخلي يعطل مسار الإصلاح. إقليميًا، من المتوقع أن تراقب كل من الرياض وواشنطن هذا الخطاب عن قرب، فيما قد تتعامل طهران معه بحذر، خشية أن يكون مقدمة لتقليص نفوذها في بيروت.
"فكّ الحصار وتصويب المسار" إذًا ليس مجرد عبارة في خطاب رئاسي، بل محاولة لرسم خارطة طريق جديدة للبنان، تبدأ من الداخل عبر بسط سلطة الدولة ومكافحة الفساد، وتمتد إلى الخارج عبر إعادة فتح قنوات الدعم والثقة الدولية، في وقت يحتاج فيه البلد إلى كل مبادرة جدية للخروج من أزماته البنيوية، وسط توازنات دقيقة بين القوى المحلية والإقليمية والدولية.
Comments