بقلم شربل عبدالله أنطون
جولة علي لاريجاني الأخيرة عبر البحر المتوسط تُعدّ من أهم التحركات الدبلوماسية لمسؤول إيراني رفيع المستوى منذ بداية توسّع الجمهورية الإسلامية في العالم العربي؛ فللمرة الأولى في الذاكرة الحديثة، يزور مسؤول إيراني بمستوى لاريجاني بيروت متجاوزاً سوريا بالكامل- ليس بسبب جدول مواعيده المزدحم، بل نتيجة لانهيار محور إيران الإقليمي القائم منذ عقود. هذا الواقع الجديد يُعيد تشكيل معادلات القوة من طهران إلى بيروت، ويكشف كيف أن الاستراتيجية الكبرى لإيران تواجه في آنٍ واحد فرصاً ومخاطر في لحظة تغيّر جيو استراتيجي عميق.
انهيار نظام الأسد: إيران بلا ممر
على مدى أكثر من أربعة عقود، مَنَح ما يُسمّى بـ "محور المقاومة" طهران منفذاً لا مثيل له إلى بلاد الشام. وهذا المحور هو الممر السياسي/العسكري الذي يربط إيران، والعراق، وسوريا ولبنان.
لكن سقوط نظام بشار الأسد، واستبداله بحكومة انتقالية تسعى للاعتراف الغربي وتطمح لقطع الصلات بالماضي، أغلق المجال الجوي السوري أمام المسؤولين الإيرانيين. إن رفض دمشق منح طائرة لاريجاني حق التحليق لم يكن مجرد عائق تقني، بل رسالة علنية بأن سوريا بدأت بالتحرر من قبضة طهران وتُعيد ضبط تحالفاتها.
تداعيات ذلك استراتيجية بامتياز. لطالما استخدمت إيران ووكلاؤها سوريا، بحصانة تامة، كممر حيوي للأسلحة والأموال والكوادر المتجهة إلى "حزب الله". هذا الخط اللوجستي انقطع فجأة، مما أدى إلى تصدع عقود من الاستمرارية، وأجبر طهران على إعادة تقييم مساراتها وتحركاتها.
من دمشق إلى بغداد: زيارة لاريجاني تكشف تحوّلات استراتيجية إيران
مع انتهاء دور سوريا كجسر موثوق، باتت إيران تعتمد على العراق كحاجز استراتيجي ومحور مركزي لسياستها الاقليمية. أهمية بغداد تضاعفت في الأشهر الأخيرة، كما يظهر من إقامة علي لاريجاني المطوّلة وتوقيع مذكرة تفاهم جديدة تعزز الروابط الأمنية والاقتصادية الثنائية بين البلدين.
ورغم أن هذه المذكرة تركز رسمياً على أمن الحدود ومكافحة الإرهاب، إلا أنها تمنح إيران وصولاً أعمق من أي وقت مضى إلى البنية العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية العراقية. تُعتبر مذكرة التفاهم هذه خطوة ضرورية لطهران لتشريع نفوذها في العراق من خلال إضفاء الطابع الرسمي على التعاون، وتفتح لإيران مسارات بديلة في ظل تغيّر خطوط الإمداد الإقليمي.
الأهم من ذلك، يُطرح في العراق حالياً موضوع التصويت على قانون جديد للحشد الشعبي. تلك المجموعات التي نشأت لمواجهة داعش، لكنها تحوّلت إلى أذرع موثوقة للحرس الثوري الإيراني. حتى أن بعض فصائل "الحشد" تشكل خطراً على الأمن القومي العراقي. قام العراق بتقنين قوات الحشد الشعبي، واعترفت بغداد رسمياً (بموجب قانون 2016) بهذه القوات كجزء من المنظومة الأمنية، ما عزز نفوذ الفصائل الموالية لطهران داخل المؤسسة الدفاعية العراقية. واليوم يضغط النظام الإيراني بقوة لإقرار القانون الجديد للحشد، مما سيشدد قبضة طهران على العراق.
في الوقت نفسه، تُشكّل ثروة العراق النفطية الهائلة شريان حياة اقتصادياً أساسياً لإيران. ومع تصاعد العقوبات وتراجع قدرتها على المناورة في أماكن أخرى، تعتمد إيران بشكل متزايد على العلاقات التجارية والمصرفية والتهريبية مع العراق لتعويض العجز المالي ودعم أذرعها الإقليمية.
الشبكة المالية الإيرانية وقضية مصرف الرافدين
إلى جانب التحركات العسكرية والدبلوماسية، تستخدم إيران قنوات مالية معقدة لدعم وكلائها، كما تُظهر الاتهامات الأميركية الأخيرة ضد مصرف الرافدين العراقي. تزعم واشنطن أن هذا المصرف المملوك من الدولة العراقية سهَّل تحويلات مالية غير مشروعة إلى المتمردين الحوثيين في اليمن، الميليشيا الاستراتيجية لطهران في شبه الجزيرة العربية. وقد أبلغت الإدارة الأميركية ذلك بالتفصيل إلى وزير الخارجية العراقي أثناء زيارته لواشنطن أواخر شهر نيسان المنصرم.
هذه الاتهامات تكشف البُعد المالي العميق في سياسة إيران الإقليمية، حيث تستغل طهران المصارف الحكومية لتعزيز مرونة شبكاتها رغم العقوبات والعزلة الاقتصادية. وتُجسّد قضية مصرف الرافدين التشابك العميق بين الأبعاد الاقتصادية والأمنية لسياسة إيران الإقليمية. كما تشير هذه المسألة إلى توسيع السلطات الأميركية نطاق تركيزها من العمليات العسكرية إلى المؤسسات المصرفية كنقاط اختناق رئيسية في صراع النفوذ.
المعركة لأجل لبنان: الضغط الأميركي والإحباط الإيراني
لا يوجد مكانٌ يتجلى فيه صراع النفوذ الإقليمي بشكل واضح أكثر من لبنان. جاءت زيارة علي لاريجاني في الوقت الذي اتخذت فيه بيروت - تحت ضغطٍ أميركي هائل - خطواتٍ نحو نزع سلاح "حزب الله"، القناة الرئيسية للنفوذ الإيراني على حدود إسرائيل. مع انهيار نظام بشار الأسد وإغلاق الممرات التقليدية، تواجه إيران صعوبات غير مسبوقة في تمويل وتسليح "حزب الله" المُنهار نتيجة الضربات الإسرائيلية.
شدّدت السلطات اللبنانية إجراءات الأمن في مطار بيروت والمنافذ الحدودية، وزادت عمليات التفتيش، وأغلقت طرق تهريب رئيسية كانت تستخدمها ميليشيا إيران في لبنان. وبينما تُشير بعض التقارير في واشنطن إلى أن السلطات الأميركية راقبت - أو أثّرت- على رحلة لاريجاني لضمان عدم تهريبه أموالاً لحزب إيران في لبنان. لا يوجد تأكيدٌ علنيٌّ على السيطرة العملياتية الأميركية المباشرة. ومع ذلك، فإن ما هو واضحٌ هو أن نظاماً أمنياً جديداً، مدعوماً دولياً، بدأ يضرب جذور النفوذ الإيراني في عدة بلدان عربية.
وقد تجلى هذا التضييق في غياب استقبال لبناني رسمي رفيع المستوى للاريجاني في مطار بيروت، إذ استُبدل بحشدٍ موالٍ لـ “حزب الله" و"حماس"، يعكس تراجع مكانة الحزب بين المكونات اللبنانية. ولأول مرة منذ عقود، تبدو عناصر رئيسية من الطبقة السياسية اللبنانية مستعدة لتطبيع العلاقات مع الغرب على حساب الرعاية الإيرانية.
اليمن، الاستراتيجية الإقليمية، وحدود النفوذ
تَمثل رد إيران الأوسع على هذه النكسات في البحث عن ساحات جديدة وتعزيز تحالفاتها المتبقية. يمثل الحوثيون في اليمن، الذين رعتهم طهران لفترة طويلة، جبهة جنوبية حيوية، وقد شهدت الأشهر الماضية تكثيفاً للدعم والتواصل الإيراني معهم. ومع ذلك، بدأت القيادات المحلية اليمنية تتصرف باستقلالية، وتسعى وراء مصالحها المناطقية، ما يشير إلى أن النفوذ الإيراني ليس مطلقاً في اليمن.
في غضون ذلك، تُعقّد التوازنات الداخلية العراقية الأمور أكثر على النظام الإيراني. فبينما تحاول طهران "شرعنة" نفوذها ومأسسته، تحرك القادة العراقيون، بضغط أميركي ومحلي من عدة مكونات عراقية أصيلة، لكبح جماح الميليشيات الولائية الخارجة عن السيطرة، والحد من التجارة غير المشروعة عبر الحدود، والإعلان عن توجهات جديدة لتعزيز السيادة الوطنية. تشير حملة الحكومة على بعض عناصر الحشد الشعبي، ومحاولاتها الدورية تفتيش المعابر التي تسيطر عليها الميليشيات الموالية لإيران، إلى تزايد حدة التنافس على الساحة السياسية العراقية.
الطريق إلى الأمام: عدم استقرار أم تكيُّف؟
تواجه استراتيجية إيران، التي كانت تستند على ثوابت ما يُسمّى "محور المقاومة"، الآن رياحاً معاكسة شديدة. فانهيار نظام الأسد، والجهود الأميركية لعزل "حزب الله"، والحزم المتزايد لحكومات لبنان واليمن والعراق، كل ذلك يعني أن على طهران التكيُّف وإلا ستخاطر بفقدان مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة. وبينما أثبتت إيران مرونتها، فإن خياراتها تتضاءل: فالاعتماد على العراق محفوف بالمخاطر، وميليشيتها في لبنان محاصرة، والممرات البديلة - من اليمن إلى الجسر البري الممتد في جنوب سوريا – أصبحت أخطر من أي وقت مضى.
إن جولة لاريجاني غير المسبوقة، بتجاوزها الرمزي لدمشق ووصولها المتوتر إلى بيروت، هي علامة فارقة. يدخل المشروع الإقليمي الكبير للجمهورية الإسلامية مرحلة من عدم اليقين الخطير. ويبقى أن نرى ما إذا كانت طهران سترد بالتصعيد، أو بالبراغماتية، أو بمزيج منهما. ما هو مؤكد هو أن النظام القديم في الشرق الأوسط قد انتهى، وأن فصلاً جديداً، يتسم بعدم الاستقرار وإمكانية التغيير الحقيقي، قد بدأ.
Comments