bah الإرتقاء بالاستنارة والتقدم بالتبعية (1) - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

الإرتقاء بالاستنارة والتقدم بالتبعية (1)

09/06/2025 - 01:18 AM

Atlas New

 

 

 

عادل صوما

 

واجه المسلمون المصريون مدافع نابليون بونابرت سنة 1798 بالسيوف والتكبير والأدعية (يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف)، حسب ما ورد في "عجائب الأثار في التراجم والأخبار" للجبرتي، لأنهم كانوا متخلفين عما حدث من تقدم في أوروبا بعد عصر النهضة، بسبب الاحتلال العثماني الذي انتكس بعد هزيمته على أبواب ڤيينا، ونشر الإنتكاس وظلمة العصور الوسطى بشكل أعظم في مقاطعاته، فأدى الانعزال الحضاري إلى عدم معرفة المصريين بالمدافع أو البنادق أو المطبعة، وجهلهم بحضارتهم بسبب وثنيتها، كما أوضحت كل بحوث الاستشراقيين وشامبليون العالِم الفرنسي، الذي فك أبجدية اللغة الهيروغليفية المصرية.

اللحاق بالبشر

عندما وصل محمد علي باشا إلى حكم مصر سنة 1805، كان يعلم مكانة مصر وتأثيرها على الجوار، ولعله الحاكم الوحيد بعد زوال حكم مصر القديمة الذي أدرك قيمتها، وعالج نتائج هذه الهزيمة الساحقة التي نتجت عن التخلف الحضاري، كما حاول فك ارتباط مصر بالاحتلال العثماني. فبدأ بعد تحالفه مع السلطان العثماني، لتثبيت نفسه حاكماً على مصر، بحرب السلطان العثماني نفسه، وكاد ينحج في الوصول إلى الآستانة عاصمة الخلافة، ولو فعلها محمد علي لتغير وجه التاريخ، لولا تعاون السلطان العثماني مع دول أوروبا، التي خافت لضيق أفقها من طموح محمد علي للحاق بركب الإنسانية بعد النهضة، ولم تخش الطامعين الذين حاصروا ڤيينا واقتضموا إلى الأبد قطعة من القارة الأوروبية، ودسوا الفرقة والضغينة في دول البلقان!

تقهقر نفوذ محمد علي بعد هزائمه بسبب هذا التحالف، لكنه نجح فى تحويل مصر من ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية إلى قوة إقليمية، ودولة حديثة ذات حكم ذاتى، وأعاد تشكيل المشهد السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي فى البلاد.

وسائل حضارية

بدأ محمد علي علاج التخلف الحضاري بارسال البعثات الدراسية إلى أوروبا، ليعود منها رجال أكفاء يساعدوه في بناء مصر الحديثة ومؤسساتها وجيشها وأسطولها، فأوجد مصر التي جذبت بعض أعلام المثقفين والمثقفات من دول الجوار، الذين كانوا يطمحون إلى النهضة، ويريدون المشاركة في الحداثة.

كان محمد علي يدرك أن السلطة الدينية هي التي قتلت الابتكار تحت شعار محاربة البدع، فبدأ تحجيم مشيخة الأزهر ونفوذه، بعدما انزوت مصر ومعها المسلمون وراء التقاليد، وقاد المعممون أجيالاً من الكتاتيب التي تردد ويردد وراءها الطلبة، وتُخيف فيخاف السامعون من جهنم، رغم أن الحياة على الأرض هي التي تستحق الاهتمام والتفكير! لكن التلقين في الصِغَر يكوّن طبقات على العقل يستحيل إزالتها*.

كسر الرطانة

كان رفاعة الطهطاوي أحد أهم طلاب إرسالية محمد علي إلى باريس، وعاد إلى بلده بثلاثية أوروبا الفكرية التي تشكّلت بفعل أسس عصر التنوير، وهي "الإنسان والتاريخ والعقل."

كما دشن رفاعة الطهطاوي أهم ما حدث لمفردات اللغة العربية، بعد إضافة حركات التشكيل والحروف التي لم تكن موجودة أيام البعثة النبوية، وقواعد الإعراب الفارسي عوضاً عن قواعده العربية، وكان ذلك التدشين هو شتول الثورة التي أخرجت اللغة العربية من رطانتها والفلك الغيبي الذي تدور فيه، إلى التعبير عن أفكار وقيم ومفاهيم حداثة أوروبا بعد النهضة.

جلب رفاعة الطهطاوي معه من أوروبا مصطلحاتها وأدخلها إلى اللغة العربية مثل الحرية، وهي مفهوم تنويري ثوري لا علاقة له بمنظومة الغيب؛ هل الإنسان مُخيّر أم مُسيّر؟

كما أدخل الطهطاوي مصطلحي التمّدن والتقدم، وهما مصطلحان جديدان على لغة بيئة صحراوية تم برمجتها على الماضي واعادة تدويره ليناسب كل عصر، وأن التقدم هو التقدم في فهم غيبيات الدين، لذلك يُقال "عالِم" عن أي غارق في تفاسيره المتناقضة المختلفة، ويحاول إعادة تدويرها وتسويق قبولها كما هي لحض العقل على الإيمان.

تطورت وزادت مجموعة شتول ثورة المفردات التنويرية التي زرعها رفاعة الطهطاوي وبعض طلاب البعثة الدراسية، ودخلت إلى برنامج مصر التعليمي، الذي أنتج ثقافة نخبوية تمثلت في شخصيات أعلام النهضة العربية خريجي المدارس.

هكذا تم إزاحة دور الكتاتيب في المدن الرئيسية، وظهرت حركة ترجمة لأهم كتب مفكري النهضة، ودخلت مناهج دراسية أوروبية في مدارس مصر التي أسستها الإرساليات الدينية المسيحية، وسارت على الطريق نفسه المدارس الخاصة الأهلية ثم وزارات التربية.

كانت هذه النهضة مع الأسف في المدن الكبرى في مصر، ومنها انتشرت إلى المدن الكبرى في دول الجوار خصوصاً لبنان، بسبب قلة الموارد ونقص التمويل وعدم وجود قوة بشرية مُنفذة كبيرة العدد، ما خلق قشرة حضارية ضعيفة جداً للصفوة، في مصر ودول الشرق الأوسط، أخفت تحتها مئات القرى والبلدات التي لم تعرف ما عرفته المدن، وكانت تلك القرى والبلدات تعتبر منفصلة بتقاليدها وعشائريتها عن المدن المركزية، بسبب الإستعباد الديني المُعمم الذي سيطر على التعداد السكاني الأكبر والأهم، وجلس متربصاً بصفوة النهضة وقشرتها السطحية حتى واتته الفرصة.

دارت هذه النهضة الشرق أوسطية في فلك الغيبيات، بسبب نقص أو عدم وجود تمويل للأبحاث، وكانت في معظمها هوامش جديدة جريئة لتفاسير النص الديني ونظرية الحكم في الإسلام، كما فعل طه حسين وعلي عبد الرازق، ولم يظهر نهضوي بنظرية اجتماعية أو إنسانية جديدة، أو اكتشاف علمي أو فلكي، أو الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة لظهور عصر إنساني جديد في المنطقة، كما فعل نصر حامد أبو زيد وفرج فودة في النصف الثاني من القرن العشرين.

"إن الحكم إلاّ لله" فُسرت كما هو واضح تفسيراً سياسياً وليس عقائديا، حيث العبادة لا تجوز سوى لله.

صحيح أن فرح أنطون وسلامة موسى حاولا التحدث بمفردات نهضة أوروبا ومعانيها، كما حاول لويس عوض في مجاله، لكن الجو العام طمس محاولتهم.

 

للموضع صلة

 

*من صور هذا التلقين المدهش، ما سمعته من الطفل الذي بترت "داعش" يديه لأنه سرق بطارية قديمة ليشتري طعاماً يسد به جوعه.

قال الطفل لأحد المواقع الإخبارية في مقابلة تلفزيونية ما يُفهم منه أنه تلقى جزاءه رغم حسرته على فقدان يده! وما قاله الطفل إما بسبب تلقين تم قبل تسجيل المقابلة، أو تلقين الأطفال في المدراس الفقيرة.

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment