د. خالد زغريت
أذكرُ ذلك اليوم ولا أنساه أبداً. على الرغم من أنّي ما كنتُ بعمري أحوج إلى نعمة النسيان يومها، فالذكرى تنفع وتجرح. وما كنت إلا مؤمناً أشد الإيمان أن طبيعة التجدد تفرض الحاجة إلى نعمة النسيان؛ لأن الحياة الطبيعية لا يقف فيها التاريخ عند شخص أو حدث مهما كانا عظيمين. ودائماً كنت على إيمان ٍ بأنّ اتخاذ الماضي أُمّاً نتعلّقُ حضنَها، فلا نقوى على أن نكبر.... هو سلوك مرضي نابع من عجز، على أن الإحساس بالعجز ماثل جراء ذهولنا مما في يومياتنا من فساد في تفاصيل قد تبدو صغيرة، لكنها تحمل ما وراءها نكبة ونكسة وهزيمة لم نسمها تكرّماً أو ذهولاً، لكني أدرك أن لكل يوم شمسه مهما طال ليله، سواء "شدت نجومه بكلّ مغار الفتل" أم تطاول تطاوله في "دمون" ومن يومها و الزمن يردد صدى آهاته :
تَطَاوَلَ اللَّيْلُ عَلَيْنَا دَمُّونْ
دَمُّونُ إِنَّا مَعْشَرٌ يَمَانُونْ
وإِنَّنَا لِأَهْلِنَا مُحِبُّـــــونْ
ولم يكن ببالي أن أستحضر ذكرى امرئ القيس، وأنا أكتب هذه المقالة لكن تداعيه مع ذكر الليل ضاعف ألمي بذكرى ذلك اليوم الذي بدأت حديثي عنه، فجرحتني الذكرى مرة أخرى.
ليس بزمن بعيد بثت القنوات الفضائية خبر اكتشاف قبر امرئ القيس في تركيا، ونبأ عزم الحكومة هناك على إنشاء حديقة باسمه، فأحسست كم ننسى وكم نبخل، وكم كنا ونكون عاقين.
وأعود إلى ذلك اليوم الذي أحسست فيه أنه من واجبي أن أكتب دراسة نقدية عن رائدة الحداثة " نازك الملائكة"، تطوعاً مني قد لا تحتاج إليه تجربتها التي أضاءت عالم الحداثة، لكن شعوري بجحودنا لأعلامنا سوّل لي ما أردت، ولكن مفاجأتي كانت مذهلة كنت أقرأ نازك الملائكة شعرياً ونقدياً وسيرة.
لكن كيف فاتتني تلك العبارة المذهلة" وسماها والدها "بنازك " تيمّناً بالثائرة السورية "نازك العابد"؟ فأدهشني أني لا أعرف ابنة وطني التي بلغت من الشهرة أن سميت رائدة الحداثة باسمها..
وزادت دهشتي عندما تعرفت على سيرة "نازك العابد" أنّ لا أحد منا في سورية إلا ويعرف بطل ميسلون "يوسف العظمة". لكن لماذا لم نعرف أن الشهيد المجيد كان قد لفظ أنفاسه الطاهرة بين يدي المرأة الثائرة نازك العابد وهي تحاول علاجه؟
كانت تجول في احتدام المعركة على الجنود بلباسها العسكري، تتفقدهم، وتحثهم على الدفاع عن تراب وطنها، ولم يكن عمل نازك العابد من الأسرار، لكي نبرر نسيانها فقد" مُنحت رتبة نقيب زمن الملك فيصل نتيجة لمواقفها البطولية".
بعد نهاية معركة ميسلون لم يغفر لها الفرنسيون فنفوها، لكنها لم تستسلم، عملت على تشكيل الجمعيات المناوئة للمستعمر، وتأسيس المجلات، وتكوين المنتديات الأدبية التي تدافع عن قضايا المرأة و الفلاحين و العمال، وأطلق عليها "جان دارك الشرق" وفي سيرتها من الكبرياء و النضال بالكلمة و الرصاصة ما يندر أن نعرفه.
لكن السؤال الذي يبقى مفتوحاُ أين هذه المرأة في أدبياتنا؟ في ذاكرتنا؟ وما الذي فعلناه لنخلد بطولتها، وكفاحها؟ لم نسمع عن مهرجان فكري أو أدبي، أو جائزة باسمها، ولم نعرف أن هناك مَن فكّر بتأسيس متحف لها ولأبطال آخرين مازالت تضحياتهم ملء وجدان الأحرار، ولماذا لا يبادر المعنيون بالوطن إلى تأسيس متحف أو بيت لذاكرته يحفظ تاريخ رجاله ومقتنياتهم، ويحي أسماء صناع الوطن التي طالتها يد النسيان أو الظلم التاريخي.,
لم يكن الكثير من السوريين يذكرون أن العلامة محسن الأمين أحد أبناء جبل عامل كان من قادة الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، وقد شارك في تنظيم ثورة بيضاء في عام 1920، تمثلت في عصيان مدني شامل أدى إلى مقاطعة واسعة للشركة الأجنبية (شركة الكهرباء والترام) وإغلاق المحلات التجارية، وكانت مطالبته بوقف الحكم العرفي الشرط الرئيس لإنهاء هذه الحركة.
وكان للشاعر قسطاكي الحمصي مواقف مشرفة من الاحتلال الفرنسي لسوريا جسدها شعراً وفعلاً ومما يذكر له أنه كتب ثلاث قصائد وطنية تعارض الانتداب. و يقول: ” في صيف سنة 1920 قام نفر من الشعوبيين في بيروت ولبنان يدعون الناس إلى الطلب من حكومتهم أن تجعل اللغة الفرنسيّة رسميّة في سائر محاكمها ودوائرها، ولكن أبى كرام القوم وجميع من تبعهم من ذوي الأصل العربي، أن ينزلوا عند رأي هؤلاء الخوراج. فهذا الحدث المنكر ألهمني موضوع هذه القصيدة التي تغنّى بها كثير من طلاّب المدارس في حلب.” وسمّى القصيدة “البدويّة” ومطلعها:
بالله يا نسمات الرند والبان من نجد جئتن أم روض غسان
ويروى أنه حين أعلنت حكومة حلب، بإغراء الجنرال دو لاموت، الحكومة في الشام بانفصالها عنها قال قصيدة سماها “الحلبيّة” مطلعها:
أما لقربك بعد الهجر ميعاد فالدار في وحشة والصحب أرصاد
وله قصيدة طويلة سمّاها “الوطنيّة” ضمّنها ما اختلج به صدره على أثر قضية أنطاكية والإسكندرونة، ويشيد فيها بمختلف مناطق بلاد الشام ويتطرّق إلى مصر والعراق وجاء فيها:
هذي الديار ديار قومي والألى شادوا صروح المجد غير ذميم
ما قيمتي في القوم إن لم أنتقم من ظالم لمواطـن وحميـم
لبيك يا وطني فأنت أعزّ من عصر الشباب وكنزي المختوم
ويقول في ختامها:
إن خانك الحكم العسوف وأهلـه أو كان بعض الصحب شرّ غريم
فاذكر كراما من ذويك على الوفا لن يخنعوا ولئن غـدوا كرميـم
و لعل الذكرى تنفع، ففي وجداننا تاريخ من راحوا،
وفي ذمتنا حفظ تاريخ مَن شكّل بكبريائه وجداننا.
Comments