bah الجرائم ضد الإنسانية: من الأخلاق إلى العدالة - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

الجرائم ضد الإنسانية: من الأخلاق إلى العدالة

09/19/2025 - 18:54 PM

absolute collision

 

 

 

 

 

 

بقلم الأب البر حبيب عساف

 

منذ نكبات القرن العشرين – من الإبادة الأرمنية، إلى المحرقة اليهودية، مرورًا برواندا وسربرنيتسا – برزت الحاجة إلى إطار قانوني دولي يضع حدًا للفظائع التي تتجاوز حدود الدول وتطال الجوهر العميق للكرامة الإنسانية. وفي هذا السياق، لم يكن مفهوم "الجرائم ضد الإنسانية" مجرّد تصنيف قانوني جديد، بل استجابة تطوّرت على مراحل لإغلاق الثغرات التي كانت تسمح بالإفلات من العقاب، تحت ذرائع السيادة الوطنية أو "الطابع الداخلي" للنزاعات.

وفقًا للمادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تُعرّف الجرائم ضد الإنسانية بأنها كل فعل يُرتكب في سياق هجوم واسع النطاق أو ممنهج موجّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، مع علم الفاعل بطبيعة الهجوم. وتشمل هذه الأفعال: القتل العمد، الإبادة، الاسترقاق، التهجير القسري، السجن التعسفي، التعذيب، الاغتصاب، العنف الجنسي، الاضطهاد، الاختفاء القسري، الفصل العنصري، وغيرها من الأفعال اللاإنسانية المشابهة.

ما يميّز هذه الجرائم ليس فقط فظاعتها، بل طابعها البنيوي والمنهجي؛ فهي لا تُرتكب عرضًا أو من أفراد معزولين، بل في إطار سياسة موجّهة تستهدف مدنيين بصفتهم الجماعية أو الهوياتية. ولهذا، فهي تُعد اعتداءً على الكرامة الجماعية للإنسان، لا مجرد انتهاك لحقوق أفراد. وقد أرست المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، في قضية تاديتش (1995)، هذا المعيار بوضوح، معتبرة أن اتساع النطاق أو المنهجية هو ما يحوّل الفعل من جريمة فردية إلى جريمة ضد الإنسانية.

وتشكّل الإبادة الجماعية أقسى تمظهر لهذه الجرائم، رغم تصنيفها كجريمة مستقلة في القانون الدولي. فهي تتقاطع في أهدافها وأساليبها مع الجرائم ضد الإنسانية، لا سيما حين تُمارَس عبر القتل الجماعي، التهجير القسري، العنف الجنسي كسلاح إبادة، أو استخدام الحصار والتجويع أداةً للتدمير. وقد عرّفت اتفاقية 1948 الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية، الإبادة بأنها أفعال تُرتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية كليًا أو جزئيًا. ولعلّ الحكم الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في قضية أكاييسو (1998)، كان لحظة تاريخية، إذ اعتبر الاغتصاب أداة من أدوات الإبادة.

على صعيد المسؤولية، شكّل ظهور القانون الجنائي الدولي نقطة تحوّل مفصلية. فلم تعد المسؤولية محصورة بالدول ككيانات قانونية، بل أصبح الفرد، حتى لو كان رئيسًا أو مسؤولًا رفيعًا، خاضعًا للمساءلة. هذا هو جوهر مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، الذي كرّسته محاكم نورمبرغ، وأكّد عليه نظام روما. إذ لم تعد الحصانة الرسمية أو "الأوامر العليا" تبرّر الفعل الجرمي.

كما نصّ نظام روما بوضوح على أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، أي أن مرور الزمن لا يُلغي إمكانية ملاحقة مرتكبيها قانونيًا، مهما طال الزمن، استنادًا إلى اتفاقية عام 1968 بشأن عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ويهدف هذا المبدأ إلى التأكيد أن هذه الجرائم لا يُمكن التستر عليها أو دفنها بمرور الوقت، لأنها تمسّ الضمير الإنساني الجماعي، وتطال كرامة الإنسان في جوهرها.

لكن، وعلى الرغم من هذا البناء القانوني المتين، لا تزال العدالة الدولية تعاني من أزمات في التطبيق. إذ إن المحاكمات تخضع أحيانًا لانتقائية سياسية فاضحة. فـ"الفيتو" في مجلس الأمن كثيرًا ما يشلّ قدرة المحكمة على التحرك، وتظهر الازدواجية حين يُحاكم مسؤولون من دول إفريقية، بينما تُستثنى قوى كبرى أو حلفاؤها، رغم ارتكابهم لجرائم موثّقة، كما في حالات فلسطين، سوريا، واليمن.

إن الجرائم ضد الإنسانية – ومن بينها الإبادة الجماعية – ليست مجرد "تجاوزات" تحصل في زمن الحرب، بل هي فعل منظّم يهدف إلى محو وجود الإنسان في كينونته الجماعية. ومن هنا، فإن المساءلة ليست فقط ضرورة قانونية، بل واجب أخلاقي وكوني. ذلك أن العدالة، في جوهرها، لا تُقاس بسرعة تحققها، بل بصدق الإرادة التي تحرّكها. فالعدالة الحقيقية ليست فعلًا تقنيًا، بل التزام أخلاقي برفع الظلم، وإعادة الكرامة إلى الضحايا… حتى لو طال الزمن.

فهل يجوز لنا أن نصمت، اليوم، أمام مجازر تُرتكب بحق أبرياء، لمجرد انتمائهم إلى دين، أو قومية، أو موقف سياسي؟

وهل يبقى القانون الدولي شاهدًا مع وقف التنفيذ؟

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment