بقلم الدكتور: عبدالحميد قدوع *
القرواطة هي صيغة تعريب للكلمة الإيطالية التي تعني "ربطة العنق"، والقاف في اللهجة الليبية ينطق على الصورة اليمنية وليس على الصورة الدرزية ولا المصرية. أما العمامة فهي ما يلف به الرأس من قماش، عند الرجال خاصة، إما لغرض الوقاية من الحر والبرد أو لغرض الوجاهة. وعند إخواننا الشيعة هناك في العادة لونان من قماش العمامة، اللون الأبيض لعلماء الدين والوجهاء الذين لا ينتمون إلى آل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم. أما اللون الأسود فهو للذين ينتمون إلى آل بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ويبدو أن هذا التقليد خاص بالشيعة الإمامية الاثنا عشرية، فالشيعة الزيدية في اليمن، مثلا، لا يفعلون ذلك. وواضح أن هذا التقليد هو من دواعي التنظيم والتراتب الاجتماعي عند إخواننا الشيعة.
السيد حسن نصرالله والمليونير نبيه بري
السيد حسن نصرالله حي وليس ميتا، امتثالا لقول الله تعالى: "ولا تقولوا لمن يـُقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء، ولكن لا تشعرون." 154/2. في إحدى المقابلات الإذاعية معه سأله المذيع عن مرتبه الشهري، فأجابه السيد، وهو لا يقول إلا صدقا، أن مرتبه الشهري حوالي 1500 ألف وخمسمائة دولار خاضعة للاستقطاعات التي تسري على منتسبي المقاومة الإسلامية في لبنان جميعا. ومن المعلوم أن عائلة السيد هي عائلة كثيرة العدد، ما شاء الله، وهو ينفق عليها من هذا المرتب. ويمكنني أن أراهن، من باب المقابلة، على أن أمراء الموز الأسود في الجزيرة العربية المحتلة، الواحد منهم قد ينفق ما قيمته أكثر من 1500 دولار على ما يأكله ويشربه هو وعائلته في يوم واحد فقط.
إن السيد حسن نصر الله كان لديه وتحت سيطرته من القوة العسكرية ما يجعله يستطيع، إن أراد، أن يسيطر على الشام الأوسط، لبنان، في ظرف ساعات قليلة، وأن يخضع الجميع لسلطانه. وأن يبني لنفسه ولأفراد عائلته، في كل ناحية، قصورا تجري من تحتها أنهار لبنان وينابيعه. وأن يتخذ من الجوار والغلمان ما يشاء. لكنه مع اقتداره على ذلك لم يفعل لأنه كان يقتدي بجده محمد صلى الله عليه وسلم. مما ورد في القرآن الكريم عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: "وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا. أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها. وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا. انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا. تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار. ويجعل لك قصورا." 7-10/25.
ولقد حدثنا القرآن الكريم أن سيدنا سليمان عليه السلام سأل الله تعالى أن يهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأجابه الله إلى طلبه. ثم حدثنا أنه حين أتاه أمر الله ظل ميتا ولم يدفن حتى شبع السوس من خشب عصاه التي كان متكئا عليها. يقول الله تعالى في هذا السياق: "فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته. فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين." 14/34.
حدثني زميل عن موقف فيه عبرة حين توفى والده، رحمه الله، حيث كان أفراد العائلة منشغلين بأمر الوفاة، فذهب هو إلى أحد تجار القرية ليشتري الكفن ولوازم الميت. وقد كانت قيمة ذلك كله 25 خمسة وعشرين دينارا، في ذلك الوقت. وحين ناوله التاجر البضاعة أخرج زميلي من جيبه المبلغ وناوله التاجر، فمد التاجر يده ليأخذ المبلغ، لكن زميلي، الذي هو أستاذ في الدراسات الأدبية، رفع يده التي تمسك بالمبلغ إلى مستوى عينيه وظل ممسكا بالمبلغ ويتأمله. فظن التاجر أنه ليس معه من مال غير ذلك المبلغ فقال له: "يا دكتور بشير إذا ما في عندك غيرهم خلـّيهم معاك واعتبرهم صدقة على المرحوم". فرد عليه زميلي قائلا: لا، أنا معي غيرهم كثير والحمد لله، لكني فقط أتأمل هذه القيمة القليلة. فأنت تعرف والدي ربما أكثر مما أعرفه أنا، تعرفه كم شرّق وغرّب في أثر التجارة، وكم جمع من الأموال، وها هو الآن يغادر هذه الفانية ولا يصاحبه من ذلك كله إلا ما قيمته 25 دينارا. هذا الذي جعلني ممسكا بالمبلغ وأتأمله.
إن المليونير نبيه بري وكذلك المليونير نجيب ميقاتي، وغيرهما من أصحاب الملايين ويتعاطون السياسة، لا شك أنهم يعرفون مثل هذه العبرة ويعرفون ما هو أعمق منها. لكن ضغوط العائلة والأولاد والأحفاد لها اعتباراتها أيضا، فتجد الواحد منهم واقعا في ما يعرف في علم النفس بصراع الإقدام والإحجام. وقد يبدو الواحد منهم للناس سعيدا يوزع البسمات والضحكات يمينا وشمالا، لكنه في داخل نفسه غير ذلك.
إن السيد حسن نصرالله قد نال ما كان يتمناه، الشهادة في سبيل الله، وكان قد عاش عمره وهو يؤثر الآخرة على الدنيا متأسيا بجده محمد صلى الله عليه وسلم. حيث انظم إلى أفواج المقاومة اللبنانية منذ أن كان صغيرا، ودرس القرآن والعلوم الشرعية. أما المليونير نبيه بري فيبدو أنه عاش منذ طفولته حياة غنى وثراء. حيث وُلد في غرب أفريقيا لإحدى العائلات اللبنانية التي هاجرت سعيا وراء الرزق وهربا من الحروب، ثم كان له من المال والجاه ما كان. وقد يمتد به العيش حتى "يُـرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا" 5/22، وقد تزداد ملايينه وتنمو أكثر فأكثر. ومع ذلك كله، حين يأتيه أمر الله سوف يرحل عن هذه الدنيا ولن يصطحب معه من ملايينه شيئا.
ولا بد هنا من الخروج عن سياق هذه المقالة، لكي لا ينصرف ذهن القارئ إلى استنباطات خاطئة، فنقول: إن أحكام الشريعة الإسلامية لا تذم الغنى ولا تحث على الفقر، فالمؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف، والغنى مظهر من مظاهر القوة. والخليفة الأول والخليفة الثالث كانا من أغنياء المسلمين. وفي القرآن الكريم دائما ما يرد الجهاد بالمال مقدما على الجهاد بالنفس، وذلك راجع ربما لكون الإنسان لا يستطيع أن يجاهد بنفسه إلا ما دام حيا قادرا. أما الجهاد بالمال فهو ممكن حتى للمريض والعاجز ما دام لديه المال، بل ربما يوصي بجزء من ماله للجهاد بعد وفاته، فيلحقه الثواب والأجر حتى بعد الموت. يقول الله تعالى في سياق حكاية عن قارون وقومه: "وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا. وأحسن كما أحسن الله إليك. ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين." 77/28.
من العمامة إلى القرواطة
في السبعينيات من القرن الماضي أسس الإمام الشهيد موسى الصدر، الذي كان من أصحاب العمامة السوداء، أسس حركة مقاومة في لبنان ضد اليهود، الذين كانوا يحتلون الجنوب، تحت اسم أفواج المقاومة اللبنانية (اختـُصر الاسم في ما بعد في كلمة "أمل"). وكانت في البداية تضم عناصر من جميع مكونات المجتمع اللبناني تقريبا: مسلمين متدينين وعلمانيين سنة وشيعة، ويساريين وقوميين وشيوعيين ودروز وغيرهم. وفي شهر أغسطس/ آب عام 1978 استضافه في طرابلس يهودي من ناحية الأم اسمه معمر بومنيار القذافي. وقد قُـتل الإمام غدرا هو واثنان كانا يرافقانه، في آخر رحلة له في الدنيا، قُـتلوا بأمر من مضيفهم معمر القذافي نفسه، ودُفنوا في ليبيا. يقول الله تعالى: "... وما تدري نفس بأي أرض تموت."34/31.
تهيأت الظروف بعد تلك الجريمة الشنيعة لأن يتزعم الحركة واحد من شيعة القرواطة فكان المليونير نبيه بري. وقد تزايلت تلك العناصر المكونة لأفواج المقاومة اللبنانية في ما بينها. فنشأ حزب الله ليضم العناصر المتدينة من الشيعة، وهي ما نرمز إليها هنا بـ "شيعة العمامة". وبقي مصطلح "حركة أمل" يشير إلى العناصر العلمانية من الشيعة، وهي ما نرمز إليها هنا بـ "شيعة القرواطة". وتشتت بقية المكونات العلمانية الأخرى. وقد قامت حركة أمل تحت قيادة المليونير نبيه بري بشن حرب على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وشنت حربا حتى على حزب الله، أثناء فترة الحروب التي كان من نتائجها خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي. والسياق هنا لا يسمح بسرد كل ممارسات الخيانة المقنـّعة التي ظلّ يمارسها المليونير نبيه بري، لكني سوف أشير إلى بعض منها.
1- في بداية عام 2005 وفي ذروة الإعداد لإخراج الجيش السوري من لبنان (المرابي الامبريالي الغربي هو من رتب لدخول الجيش السوري للبنان، عن طريق ما عرف باتفاق الطائف عام 1989، وهو من رتب لإخراج الجيش السوري من لبنان في ما بعد) قامت أجهزة الكيان اليهودي في فلسطين باغتيال المليونير رفيق الحريري، الذي كان يشغل منصب رئيس الحكومة في لبنان، وهو المنصب المخصص للمسلمين السنة بحسب نظام المحاصصة المتبع في لبنان. وقد سبق ذلك بعض الترتيبات، منها لقاءات للمليونير رفيق الحريري مع الرئيس السوري في ذلك الوقت بشار الأسد ومع نائبه عبدالحليم خدام، يظهر في هذه اللقاءات كأن هناك خلافات بين المليونير رفيق الحريري من جانب والرئيس السوري ونائبه من جانب آخر. وذلك للإيحاء في ما بعد بأن الأجهزة الأمنية السورية هي التي اغتالت المليونير رفيق الحريري.
وبالفعل فقد تم تشكيل محكمة دولية ووجهت التهمة أولا للحكومة السورية حتى خرج الجيش السوري من لبنان، ثم أعيدت المحكمة لتوجيه التهمة لحزب الله، في إطار الضغوط التي يمارسها الطابور الامبريالي الخامس في بيروت على حزب الله. وكان دور المليونير نبيه بري، باعتباره رئيس السلطة التشريعية، وهو المنصب المخصص للمسلمين الشيعة في لبنان، هو توفير المسوغ القانوني والشرعي لاستجلاب المحكمة الدولية ودفع نفقاتها من خزينة الحكومة اللبنانية. ومن مستلزمات التحقيق أن تم تزويد قضاة التحقيق ببيانات كاملة عن أرقام هواتف اللبنانيين جميعا وأرقام حساباتهم في المصارف اللبنانية وعناوين سكناهم، وغير ذلك من المعلومات الشخصية، ليتم تحويلها مباشرة للوحدة 8200 في الكيان اليهودي في فلسطين، ليتم استخدامها في ما بعد في اغتيال قيادات حزب الله وأنصارهم في لبنان أثناء معركة إسناد غزة. ومقابل ذلك حصل المليونير نبيه بري على مزيد من الوجاهة والمصداقية المزيفة، وعلى تباعد سيف العقوبات على ملايينه في البنوك السويسرية.
2- أثناء الفترة الأولى من حكم الزير دونالد ترمب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أوعزت الدوائر الامبريالية الغربية للمليونير نبيه بري باستصدار قرار بإجراء مفاوضات مع اليهود تفضي إلى ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان اليهودي في فلسطين، لتتزامن مع ما عرف في ذلك الوقت بالاتفاق الإبراهيمي، حين أصدرت الإدارة الأمريكية لبعض زعماء محمياتها في الجانب المحتل من خليج فارس (محمية البحرين ومحمية أبوظبي) أصدرت أوامرها بإقامة علاقات رسمية وعلنية مع الكيان اليهودي في فلسطين. وبالفعل، قد تم تشكيل لجنة عقدت لقاءات مع اليهود. وأثناء المفاوضات نبّه كثير من اللبنانيين من مختلف الطوائف عبر وسائل الإعلام على أن الأمر فيه خدعة كبيرة، وفيه ظلم كبير للبنان. وأنه يجب أن يكون الخط الحدودي البحري الفاصل خطا مستقيما باتجاه الغرب، وأنه لن يكون للبنان نصيب في الغاز الموجود تحت المياه المقابلة إذا رسم خط منحرف. لكن النتيجة أن تمّ رسم خط غير مستقيم ينحرف إلى الشمال باتجاه قبرص حتى يحصل اليهود على الغاز ويحرم لبنان منه. وتم اعتماد الاتفاق من طرف رئاسة الجمهورية، وهو المنصب المخصص لأصحاب الصليب في لبنان، حيث اعتمده الصليبي ميشيل عون، رئيس الجمهورية في ذلك الوقت. وتم تسويقه في وسائل الإعلام باعتباره انجازا كبيرا لمقام الرئيس. وتم بالفعل استخراج الغاز وبيعه لصالح اليهود، ولم يحصل لبنان إلا على مزيد من الوجاهة للمليونير نبيه بري، وإلا على سلامة ملايين المليونير نبيه بري في البنوك السويسرية من العقوبات.
3- منذ اليوم الثاني لمعركة طوفان الأقصى دخل حزب الله المعركة إسنادا لأهل غزة، وقد أوجع مجاهدو حزب الله اليهود وجعا كبيرا، رغم ما قام به الطابور الامبريالي الخامس في بيروت من أعمال الخيانة والغدر. وفي حين كان السيد حسن نصرالله يتنقل من خندق إلى خندق يدير حملات إسناد معركة طوفان الأقصى، كان المليونير نبيه بري يتنقل من فندق إلى فندق يمارس الخيانة المقنـّعة تحت غطاء المفاوضات، حتى استشهد السيد حسن نصر الله، واستشهد رئيس المجلس التنفيذي في الحزب السيد هاشم صفي الدين، من أصحاب العمامة السوداء، واستلم قيادة حزب الله الكيميائي (اختصاصي في مادة الكيمياء) نعيم قاسم من أصحاب العمامة البيضاء. وقد اشترك المليونير نبيه بري والكيميائي نعيم قاسم في صياغة إقرار بالموافقة على وقف حرب الإسناد نسبت زورا إلى السيد حسن، حتى أوقفت مشاركة حزب الله في الحرب بالفعل. ولم يوقف اليهود الحرب على لبنان.
لقد تعود السيد حسن على التصريح والإعلان المباشر على الملإ بالقرارات المصيرية المتعلقة بالصراع مع اليهود، ولم يكن يوصي بها خفية. وكان في كل مرة يظهر فيها على وسائل الإعلام يؤكد على أنه لا وقف لمعركة الإسناد حتى تقف الحرب في غزة. ومرة أخرى كانت النتيجة للجانب اللبناني مزيدا من الوجاهة والمجاملات الدبلوماسية والمصداقية المزيفة للمليونير نبيه بري، وزيادة في ملايينه في البنوك السويسرية.
السفارة (المدينة) الأمريكية الجديدة في لبنان
المرابي الامبريالي الغربي ما يزال يستثمر في المليونير نبيه بري. فهو يسابق الزمن لكي يستفيد من مهاراته في ممارسة الخيانة المقنـّعة، التي تسوق في وسائل العار والبروباغاندا العربية تحت مصطلح تدوير الزوايا. فكثيرا ما نسمع عبارات مثل "الرئيس بري يعرف كيف يدور الزوايا" أو "الرئيس بري شاطر في تدوير الزوايا". فهناك مشروع أمريكي كبير يجري التحضير لافتتاحه في لبنان هو السفارة الأمريكية الجديدة، التي هي في الواقع المدينة الأمريكية في لبنان. فحجمها، حسب ما يقال، أكبر حتى من حجم السفارة (المدينة) الأمريكية في بغداد التي يعمل بداخلها آلاف الجواسيس الأمريكيين، بصفة دبلوماسيين، من أجل المحافظة على السيطرة الأمريكية المطلقة على سماء العراق وأرضه وما بينهما.
وما يجري من محاولات وسائل العار العربية ترويج فكرة أن سلاح حزب الله يجب نزعه باعتباره يلحق الضرر بلبنان، هو في الحقيقة لصرف الأنظار عن أحد الأهداف الأساسية من محاولات نزع سلاح حزب الله، وهو تحويل لبنان إلى محمية أمريكية تكون مركزا للسيطرة والتحكم في الشام كله من الفرات إلى العريش، ومن طيئ إلى أنطاكيا وبحر الروم. (وهي حدود الشام التي ذكرها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان، مادة ش ا م). محمية تضاف إلى المحميات الأمريكية الثمانية في الجزيرة العربية المحتلة: دول الخليج الستة والأردن والعراق.
والعائق الوحيد لهذا المشروع هو سلاح حزب الله، لأنه من خلال السلاح يمكن لنواب حزب الله في البرلمان اللبناني، ووزرائه في الحكومة، يمكن لهم عرقلة مشروع المدينة الأمريكية في لبنان. فالمليونير نبيه بري باعتباره رئيس المجلس النيابي (السلطة التشريعية)، وباعتباره خبيرا في القانون وحيل القانون، جاهز لتمرير قرار إقامة المدينة الأمريكية في لبنان (وهو جاهز لما هو أبعد من ذلك)، إذا زال العائق المتعلق بسلاح حزب الله.
إن المواقف السياسة فعاليتها تعتمد على قوة السلاح. ففي هذا الزمان، وربما في كل زمان، من يسيطر على السلاح هو الذي يحكم قبل أي اعتبار آخر. وبقدر سيطرة كيان سياسي ما على الجيش وعلى السلاح يكون تأثيره الفعلي على القرار السياسي السيادي. ففي بغداد، مثلا، هناك قرار من السلطة التشريعية في العراق يقضي بخروج القوات الأمريكية من البلاد، لكن السلطة التنفيذية في بغداد لا تستطيع تنفيذه لأن الجيش في العراق مسيطر عليه أمريكيا. ولن ينفذ ذلك القرار إلا إذا قام باسيج العراق، أفراد الحشد الشعبي، بمهاجمة القواعد الأمريكية بما لديهم من سلاح وإخراجهم من البلاد بقوة السلاح. فالسلطة التنفيذية في بغداد هي عبارة عن مجموعة من اللصوص والخونة تحميها القوات الأمريكية المنتشرة في العراق.
المليونير والقابلية للابتزاز
وكاتب هذه السطور لا يحسد المليونير نبيه بري ولا غيره على ما أوتوا من مال، بل إني أدعو الله تعالى لكل مسلم ومسلمة أن يزيد في أموالهم من طريق الحلال، آمين. لكني أردت أن أشير إلى إحدى أمكر الوسائل التي يلجأ إليها المرابي الامبريالي الغربي في اختيار العملاء وتجنيدهم، ربما من حيث لا يشعرون. ففي الماضي كان الملك حسين ملك الأردن يعمل لصالح المخابرات الأمريكية عن وعي تام مقابل مبلغ مليون دولار شهريا، وكان لديه ملف في أرشيف المخابرات الأمريكية تحت اسم "مستر بيف"، بحسب ما ذكره الصحفي المصري المخضرم محمد حسنين هيكل، وكذلك الصحفي الشامي المخضرم أسامة فوزي (فلسطيني/ أردني). أما الآن قد صارت التحويلات المالية الكبيرة التي تتم عبر المؤسسات المالية العالمية يتحكم فيها المرابي الامبريالي الغربي، ويسخرها لخدمة مصالحه. فإذا أراد المليونير بري، مثلا، لملايينه التي في بنوك سويسرا أن تنمو وتزداد فعليه أن يساير رغبات المرابي في لبنان. وإلا فتهمة دعم الإرهاب جاهزة لتتجمد ملايينه، وقد تصادر ملايينه جملة وتفصيلا. وهذا ينطبق على كل مليونير يتعاطى السياسة في العالم الإسلامي، وربما في العالم أجمع. وهذه حكاية من عندنا في ليبيا سوف أذكرها حتى إن كانت خارج سياق هذه المقالة، ففيها بعض الإسقاطات على الواقع العربي، خاصة، لا تخفى على كل ذي بصيرة.
حكاية من ليبيا
زار المليونير عبدالحميد الدبيبة (بسكون الياء)، رئيس السلطة التنفيذية في ليبيا في هذه السنوات، بعد أن شكـّل حكومته، زار دار الإفتاء في طرابلس طمعا في البركة. فأنكر عليه الفقهاء هناك اختياره امرأة حاسرة الرأس لتكون واجهة البلاد في الخارج (وزيرة الخارجية) في مجتمع متدين ومحافظ. فقال لهم إن الأمر كان قد فرض عليه فرضا. فقيل له إذا كان ذلك كذلك عليك أن تترك الحكومة جملة وتفصيلا، ولم يفعل. ثم قامت تلك الوزيرة بزيارة رسمية إلى طهران، وفي طهران كان عليها أن تغطي شعر رأسها ولو جزئيا، ففعلت. فغضب عليها المرابي الامبريالي الغربي، فرتب لها مكيدة سياسية حين قامت بزيارة غير رسمية إلى إيطاليا، حيث رُتب لها لقاء سري مع أحد المسئولين اليهود. وتم تسريب خبر اللقاء إلى الرأي العام، بعد أن عادت إلى البلاد، فقامت مظاهرات كبيرة ضدها، فهربت تحت جناح الظلام عائدة إلى بلادها التي وُلدت وتربت فيها، بلاد المكر والدسائس (بريطانيا)، و"كأنك يا بوزيد ما غزيت". أما آل الدبيبة في مدينة مصراتة فقد نجت ملايينهم هذه المرة من أسياف عقوبات المرابي الامبريالي الغربي.
الأكاديمي حسان دياب والمليونير نجيب ميقاتي
من المحطات الهامة في الصراع بين المرابي والفقيه في لبنان ما حدث بعد أن حرر حزب الله جنوب لبنان من اليهود، ومن الجيوش التي أقاموها فيه من حلفائهم أصحاب الصليب في لبنان، مثل جيش الصليبي سعد حداد وجيش الصليبي انطوان لحد. فقد انخرط حزب الله في مجال السياسة مستفيدا من الزخم والتأييد الشعبي الكبير في لبنان وخارج لبنان. فصارت له كتلة نيابية معتبرة، مكنته من النجاح في تشكيل حكومة لا يرأسها أحد من أصحاب الملايين، من أفراد العائلات اللبنانية المعروفة باحتكارها ممارسة السياسة في لبنان. فوصل الأكاديمي حسان دياب إلى منصب رئيس الحكومة. وقد أوصته قيادة حزب الله بأن لا يخضع للضغوط التي يتوقع أن يتعرض لها من أجل ترك منصبه مهما كان حجمها.
وقد جنّد المرابي وسائل العار والبروباغاندا العربية، التي يموّلها أمراء الموز الأسود في الجزيرة العربية المحتلة، إضافة إلى الذباب الالكتروني، جندها جميعا للتحريض على المظاهرات ضد حكومة الأكاديمي حسان دياب. هذا إضافة إلى المكائد والدسائس داخل الحكومة التي يقوم بها الوزراء والنواب المنتمون للطوائف الصليبية في لبنان. وقد خرجت بالفعل مظاهرات كبيرة في بيروت تتهم الحكومة بالفساد والمحسوبية والخضوع إلى إرادة حزب الله، في مشهد مماثل تقريبا لما حدث مع حكومة عادل عبدالمهدي في بغداد. والحقيقة أن الأمر يتعلق بكون الأكاديمي حسان دياب ليس فيه قابلية للابتزاز، فلا يملك إلا مرتبه الشهري الذي يأتيه من الجامعة. وليس لديه ملايين في بنوك أوربا أو بنوك أمريكا أو بنوك إمارات الموز الأسود على الجانب المحتل من الخليج.
ولما لم تنجح تلك الأعمال في الإطاحة بحكومة حسان دياب أوعز المرابي إلى ذراعه اليهودية، المختصة بالأعمال الإجرامية القذرة، بالقيام بتفجير مخزن كبير في ميناء بيروت يحتوي على مواد كيميائية. وقد أحدث الانفجار دمارا كبيرا نتج عنه وقوع الآلاف بين قتيل وجريح في يوم 4 أغسطس/ آب 2020. ورغم أن تلك المواد الكيميائية كانت مخزنة بطريقة مشبوهة في الميناء منذ سنين طويلة قبل وقوع الانفجار، بعلم الأجهزة الأمنية اللبنانية، فقد قامت الأجهزة القضائية، التي يسيطر عليها قضاة ينتمون إلى الطوائف الصليبية في لبنان، قامت بتوجيه الاتهام إلى حزب الله، تدعمها وسائل العار والبروباغاندا العربية كلها بلا استثناء. ولم يتحمل الأكاديمي حسان دياب هذا النوع من الضغوط فترك رئاسة الحكومة، فعادت إلى أصحاب الملايين. فعاد المليونير نجيب ميقاتي، فشكل حكومة تسيير أعمال استمرت أثناء فترة الفراغ السياسي الذي أعقب غياب رئيس الجمهورية الصليبي ميشيل عون.
طعن المقاومة في الظهر
وقد استمرت حكومة المليونير نجيب ميقاتي حتى بداية هذا العام 2025. وكان من الممكن أن تستمر، وتتحول من حكومة تسيير أعمال إلى حكومة معتمدة من البرلمان لو أنه حافظ على ما يرضي المرابي من أفعال، بيد أنه ذهب إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج أثناء فترة حكمه. فغضب عليه المرابي، فأوعز إلى المليونير نبيه بري بتهيئة الأوضاع القانونية والإدارية، التي تسوغ ترك الصليبي جوزيف عون منصب قيادة الجيش ليتسنى اختياره رئيسا للجمهورية، وقد كان، وترتيب استجلاب شيوعي لبناني من الخارج ينتمي إلى طبقة الخيانة طبقة التكنوقراط اسمه نواف سلام ليتولى منصب رئاسة الحكومة، وقد كان. ففي فترة الفراغ السياسي المتمثل في غياب رئيس الجمهورية، ووجود حكومة تسيير أعمال، خلت الساحة السياسية في لبنان للمليونير نبيه بري، الذي ظل يحتكر رئاسة السلطة التشريعية منذ عقود، ولم يتعرض لأي نوع من الضغوط التي تحمله على ترك المنصب. ذلك مكافأة له على خدماته الجبارة التي يقدمها للمرابي الامبريالي الغربي.
وفي سياق تبرير طول فترة الفراغ السياسي في لبنان، التي ساهم فيها حزب الله وحلفاؤه، ظل السيد حسن نصر الله يؤكد في كل مناسبة يخاطب فيها الجمهور على أن الحزب إنما يريد حكومة لا تطعن المقاومة في الظهر. ولقد طعن تحالف الخيانة والغدر، المتمثل في الصليبي جوزيف عون والشيوعي نواف سلام والمليونير نبيه بري، طعنوا المقاومة في الظهر بتآمرهم على استصدار قرار حكومي في شهر أغسطس/ آب 2025 يقضي بنزع سلاح حزب الله، تنفيذا لرغبة المرابي الامبريالي الغربي وأذنابه الصليبيين في لبنان.
لكن الله تعالى يقول: "كـُتب عليكم القتالُ وهو كره لكم. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون" 216/2. فلعل الله تعالى يجعلها حربا بين الإيمان والكفر في لبنان، تنتهي فيها نهائيا هيمنة الصليبيين الكفار على مفاصل الدولة في لبنان، مثل منصب رئيس الجمهورية ومنصب قيادة الجيش ومنصب رئاسة المصرف المركزي. فهذه المناصب وغيرها يحتكرها الصليبيون الكفار في لبنان، وفقا لترتيبات الحكم التي كان قد وضعها الفرنسيون بعد ما أنشئوا ما يسمى دولة لبنان، رغم أن أصحاب الصليب هم أقل عددا من المسلمين في لبنان. فلبنان دار إيمان وليس دار كفر.
دار الإيمان ودار الكفر
عندما يكون المسلمون أكثر عددا من الكفار في بلد ما فإن تلك البلد تسمى دار إيمان. أما الدول التي يكون فيها المسلمون أقل من الكفار، مثل الدول الأوربية ودول أمريكا الشمالية والجنوبية ودول أقصى شرق آسيا، في هذا الزمان، فهي دار كفر. والأقلية المسلمة المقيمة في دار الكفر يلتزم أفرادها شرعا بالقوانين الوضعية التي يحكم بها أولياء أمورهم الكفار، إلا ما يتعارض منها مع الشريعة الإسلامية. أما في دار الإيمان، حيث يكون المسلمون أكثرية، فيجب عليهم السعي بكل الوسائل ضد العلمانيين، وغير المسلمين إن وُجدوا، من أجل السيطرة على الجيش والسلاح لإيصال نخبة سياسية مسلمة متدينة إلى الحكم، كما حدث في التجارب الناجحة في طهران وكابول، على سبيل المثال لا الحصر. ويجب عليهم التعلم من التجارب الفاشلة، كالتي حدثت في الجزائر ثم في القاهرة وتونس، حيث كانت الهرولة وراء سراب الديمقراطية، مع إغفال أمر الجيش، مهلكة. ذلك حتى يكون الحكم إسلاميا بحسب الشريعة الإسلامية متى ما كان ذلك ممكنا. والحمد لله لدينا حتى الآن خمس دول ترأسها، وتسيطر على الجيش والسلاح فيها، نخبة مسلمة متدينة وهي إيران وتركيا وأفغانستان وسوريا واليمن العظيم، و"الحبل على الجرار".
يقول الله تعالى في السورة الخامسة في ترتيب المصحف: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم. وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم. إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة. ومأواه النار. وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة. وما من إلـٰه إلا إلـٰه واحد. وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه. والله غفور رحيم. ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. وأمه صدّيقة، كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبيّـن لهم الآيات، ثم انظر أنى يؤفكون." 72-75.
هذه الآيات المحكمات من القرآن الكريم تقضي أن الذين يعتقدون أن المسيح عيسى بن مريم هو الله هم كفار، وكذلك الذين يعتقدون أنه ثالث ثلاثة، (الفكرة التي تعرف بالتثليث: الأب والابن والروح القدس)، هؤلاء هم كفار أيضا. فلم يرد أي شئ يؤيد تلك الاعتقادات لا في التوراة ولا في الإنجيل، كما شهد بذلك القرآن الكريم. ففي نهاية السورة نفسها يحدثنا الله تعالى عن حوار بينه وبين المسيح عيسى بن مريم يوم القيامة حيث يقول: "وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلـٰهين من دون الله؟ قال سبحانك. ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه. تعلم ما في نفسي. ولا أعلم ما في نفسك. إنك أنت علاّم الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به، أن اعبدوا الله ربي وربكم. وكنتُ عليهم شهيدا ما دمتُ فيهم. فلما توفيتني كنتَ أنت الرقيب عليهم. وأنت على كل شئ شهيد. إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم. قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقُهم. لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا. رضي الله عنهم، ورضوا عنه. ذلك الفوز العظيم." 116-119.
والذين يعتقدون أن المسيح عيسى بن مريم قد صـُلب، فيتخذون الصليب شعارا لدينهم، هم في ضلال مبين. يقول الله تعالى في السورة الرابعة إشارة إلى اليهود، (فالمسيح عيسى بن مريم لم يبعث إلا لبني إسرائيل): "فبما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غُلف، بل طبع الله عليها بكفرهم. فلا يؤمنون إلا قليلا. وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله. وما قتلوه وما صلبوه. ولكن شُـبـّه لهم. وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه. وكان الله عزيزا حكيما. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته. ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا." 155-159. وفي السورة نفسها يقول الله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق. إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه. فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة. انتهوا خيرا لكم. إنما الله إلـٰه واحد. سبحانه أن يكون له ولد. له ما في السماوات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلا. لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله، ولا الملائكة المقربون. ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله. وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا." 171-173.
فسيدنا عيسى بن مريم عليه السلام ليس إلا بشر، خلقه الله تعالى بكلمة ألقاها إلى أمه الطاهرة البتول مريم بنت عمران عليها السلام. ثم توفاه الله بنفسه ورفعه إليه. يقول الله تعالى في السورة الثالثة في ترتيب المصحف: "إذ قال الله يا عيسى إني مُتوفيك، ورافعك إليّ، ومُطهرك من الذين كفروا. وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. ثم إليّ مرجعكم، فأحكم بينكم في ما كنتم فيه تختلفون." 55. فالله تعالى قد قبض روح عيسى بنفسه، وهي خصوصية اختصه الله بها. أما نحن فقد أوكل الله إلينا ملكا ليقبض أرواحنا عند حلول أجل كل منا. يقول الله تعالى في السورة الثانية والثلاثين "قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكّـل بكم. ثم إلى ربكم ترجعون."11. وقد نفى الله تعالى صفة الخلد عن البشر وهو يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم حين يقول: "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد. أفإن متّ فهم الخالدون. كل نفس ذائقة الموت. ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا ترجعون." 34-35/21.
فالمسيح عيسى بن مريم، بحسب ما ورد في القرآن الكريم، قد مات، ولن يقوم من موته إلا حين يقوم الناس جميعا لرب العالمين. هكذا يقول القرآن الكريم الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. تنزيل من حكيم حميد." 42/41. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى القرآن، في سياق حديث مروي عن الإمام على ابن أبي طالب رضي الله عنه: "... ومن ابتغى الهـُدى في غيره أضله الله".
البراءة من الكفار في لبنان
يقول الله تعالى في السورة الخامسة في ترتيب المصحف: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء. بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين." 51. فالمسلم لا يجوز له شرعا أن يتخذ اليهودي أو المسيحي حليفا، سواء أكان في مجال القتال أو في السياسة. ولا ينبغي للمسلم أن يسعى وراء مرضاة اليهود أو النصارى، لأن ذلك قد يؤدي به إلى الخروج من ملة الإسلام إلى ملة الكفر. يقول الله تعالى في السورة الثانية: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم." 120. ومن الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها حزب الله، أثناء ممارسة السياسة، التحالفات السياسية التي أقامها مع بعض التيارات السياسية الصليبية في لبنان، مثل ما يسمى التيار الوطني الحر الذي أسسه الصليبي ميشيل عون، ويقوده الآن صهره الصليبي جبران باسيل. هذا الصليبي، الذي ظل في الماضي يدّعي مناصرته المقاومة الإسلامية في لبنان، قد صرّح على العلن في هذه الأيام، أغسطس / آب 2025، أنه يدعم قرار الحكومة اللبنانية القاضي بنزع سلاح حزب الله. يقول الله تعالى: "قد بدت البغضاء من أفواههم. وما تخفي صدورهم أكبر." 118/ 3. وفي السورة التاسعة يقول الله تعالى إشارة إلى المشركين والكفار: "لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة. وأولائك هم المعتدون." 10.
وإن المنتسبين للجيش اللبناني من المسلمين على اختلاف مذاهبهم، ضباطا وجنودا، لا يجوز لهم شرعا طاعة الأوامر وتنفيذها، الأوامر التي تأتيهم من الضباط الصليبيين أو القيادة العسكرية الصليبية في لبنان، خاصة إذا تعلق الأمر بالاعتداء على عناصر المقاومة الإسلامية في لبنان. فالمرابي الامبريالي الغربي يقوم منذ مدة طويلة بتحشيد أذرعته المتنوعة في لبنان، أصحاب الصليب والعلمانيين من المسلمين والدروز وغيرهم، مدعومين ماليا وإعلاميا من أمراء الموز الأسود في الجزيرة العربية المحتلة، وفي الجانب المحتل من الخليج، يقوم بتحشيدهم جميعا لشن حرب كبرى على حزب الله في لبنان من أجل القضاء نهائيا على المقاومة الإسلامية في لبنان. يقول الله تعالى: "والذين كفروا بعضهم أولياء بعض. إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". 73/8.
والمسلمون في لبنان جميعا، على اختلاف مذاهبهم، لا يجب عليهم شرعا طاعة الأوامر والقرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية صاحب الصليب جوزيف عون لأنهم لم يختاروه وليّا عليهم، بل فرضه المرابي الامبريالي الغربي عليهم فرضا. وإن أصحاب الصليب في لبنان هم أقلية قياسا على عدد المسلمين في لبنان. وفي هذه الحالة يسمون في أحكام الشريعة الإسلامية "أهل الذمة". وكتب الفقه الإسلامي فيها تفاصيل كثيرة للأحكام الشرعية التي تنظم تعامل الحكومة الإسلامية مع أهل الذمة، وتحدد لهم حقوقهم وواجباتهم. والوضع السياسي المتعلق بالحكم في لبنان معكوس منذ أن تأسس لبنان حتى الآن. فالأقلية الصليبية هي التي تحكم، وتتحكم في مفاصل الدولة السياسية والعسكرية والقضائية والمالية. وقد آن الأوان لأن يستقيم الأمر في لبنان، فيصير الحكم بأيدي الأكثرية المسلمة، وتصير الأقلية الصليبية من أهل الذمة.
حذار حذار يا شيخ الأزهر!
الشيوعي نواف سلام، رئيس الحكومة اللبنانية، قام في آخر أسبوع من شهر أغسطس/ آب 2025 بزيارة إلى مصر. وقد ظهر في وسائل الإعلام شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وهو يستقبل "الرفيق" نواف سلام، ويتبادل معه الهدايا. وقد سبق ذلك خروج مظاهرات في بيروت، مدفوعة الأجر من طرف أمراء الموز الأسود لعناصر مأجورة من الشيعة. وأظهرتهم وسائل الإعلام وهم يدوسون صور الشيوعي نواف سلام، الذي يقدم للرأي العام باعتباره زعيم المسلمين السنة في لبنان! وقد سبق هذا وذاك مظاهرات مدفوعة الأجر من المصدر المذكور لعناصر مأجورة من المسلمين السنة في طرابلس لبنان، يؤيدون الشيوعي نواف سلام في القرار الذي اتخذه في ما يتعلق بنزع سلاح حزب الله. هذه المشاهد الثلاثة، وما قد يتبعها من مشاهد في السياق نفسه، مثل ظهور سياسيين وإعلاميين مرتزقة يقتاتون على قشور الموز الأسود، التي يلقيها إليهم أمراء الموز الأسود في نجد وفي الجانب المحتل من الخليج، ظهورهم على وسائل الإعلام في بيروت وغيرها يحرضون على الفتنة بين المسلمين في لبنان. كل ذلك عبارة عن مسرحية سمجة، الغرض منها إحداث فتنة بين المسلمين السنة والشيعة في لبنان. ويبقى الصليبيون والعلمانيون يتفرجون على أعمال القتل بين المسلمين في لبنان.
ومع يقيني أنه لن يحدث شئ من هذا بعون الله، فإني أتوجه إلى شيخ الأزهر شخصيا بالتحذير من أن يقع في شراك المرابي الامبريالي الغربي وحبائله، والمساهمة في المؤامرات التي يحيكها أذنابه في الجزيرة العربية المحتلة، وفي الجانب المحتل من الخليج، ربما من حيث لا يعلم. فالمؤمن كيـّس فطن، بحسب ما ينسب إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الحكمة. فمنذ متى يستقبل شيخ الأزهر السياسيين العرب العلمانيين، ويتلقى منهم دعوات لزيارة الدول العربية؟ وقد يتفهم بعض المسلمين المداهنة التي تقوم بها مؤسسة الأزهر الشريف في تعاملها مع الحكومات العلمانية المتتابعة في مصر، منذ قيام دولة مصر الحديثة، لكن المسلم لا يمكنه أبدا أن يتقبل مشاركة الأزهر الشريف في إحداث الفتن بين المسلمين.
وإذا كان شيخ الأزهر يظن أن ما آتاه الله تعالى من العلم قد يجعله معصوما من الوقوع في حبائل المرابي الامبريالي الغربي ومؤامراته فإنه واهم. فإنه لا عصمة لبشر إلا بإذن الله. فهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم كاد أن يقع في مكائد الكفار والمشركين من قريش، ويأتينا بقرآن آخر غير هذا الذي بين أيدينا، لولا تثبيت الله له على الحق. يقول الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: "وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره، وإذن لاتخذوك خليلا. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات. ثم لا تجد لك علينا نصيرا." 73-75/17.
"لا تحسبوه شرا لكم. بل هو خير لكم" 11/24
ما حدث في دمشق في اليوم الثامن من شهر ديسمبر/ كانون من العام الماضي 2024، حيث انتزعت النخبة المسلمة المتدينة في سوريا السلطة من النظام العلماني الذي كان يتزعمه آل الأسد، هو انتصار كبير للفقيه على المرابي في الشام، وليس كما يحاول المرجفون في المدن العربوفونية تسويقه للرأي العام من أنه هزيمة لمحور المقاومة. فقد تخلص الفقيه من حمل ثقيل ومن شر مستطير مصدره النظام السوري السابق، الذي كشفت المعلومات الموثقة أنه كانت توجهه وترعاه المخابرات البريطانية من بعيد (بالريموت كـُنترول) منذ ستينيات القرن الماضي عندما كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع في حكومة أحمد الأتاسي، وأنه كان يقوم بأعمال الخيانة والغدر لصالح المرابي الامبريالي الغربي. ومن ذلك تخليه عن مناصرة منظمة التحرير الفلسطينية أثناء المواجهات التي وقعت بينها وبين الخائن حسين بن طلال ملك الأردن آنذاك، في ما صار يعرف بأحداث أيلول الأسود عام 1970. المواجهات التي أدت إلى خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن. وما فعله، هو ودعاة القومية العربية مثل القذافي وصدام، من شق الصف الفلسطيني وتفتيته تحت شعارات تـَبيـّن زيفها في ما بعد. وكم مرة ساهمت أجهزة نظام الأسد في توفير المعلومات اللازمة لليهود لاغتيال قادة المقاومة من لبنان ومن فلسطين ومن إيران وغيرهم في دمشق نفسها. هذا إضافة إلى تعذيب المسلمين المتدينين في سوريا وقتلهم، لا لشئ إلا لأنهم متمسكون بدينهم. "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزير الحميد." 8/85. لقد كان نظام حافظ الأسد تطبيقا عمليا وأنموذجا مثاليا لرواية الكاتب البريطاني جورج أورويل تسعة عشر أربعة وثمانين، أو الأخ الأكبر.
إن المرابي في صراعه مع الفقيه صار في موقع الدفاع والتعامل بردود الفعل حيث يتعلق الأمر بسوريا. فهو يحاول منذ أن وصل الإسلاميون إلى الحكم في دمشق، مستعينا بأذرعته الربوية في الجزيرة العربية المحتلة (أمراء الموز الأسود)، يحاولون احتواء العناصر المسلمة المتدينة التي تسيطر على الحكم وعلى الجيش في دمشق، بعد سقوط نظام آل الأسد. ويحاولون الاحتفاء بهم بأسلوب مماثل لما كانوا قد فعلوه مع جماعة الإخوان المسلمين، حين وصلت للحكم في مصر في عام 2012، تحت لافتات المساعدات والاستثمار. ذلك الاحتفاء الذي تبخـّر، ثم تحول إلى شماتة في جماعة الإخوان المسلمين بعد سقوط حكمهم في مصر. وهذا الاحتواء يكون من وجهين: اقتصادي وسياسي. فالاحتواء الاقتصادي يأتي عن طريق محاولة توريط البلاد في المنظومة الربوية العالمية عبر ما يسمى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وما يشبهها، التي هي في الواقع موسسات ربوية تديرها الامبريالية الغربية، وتحاول من خلالها ابتزاز حكومات الدول، صغيرها وكبيرها على حد سواء، حتى تتم السيطرة عليها سيطرة تامة، والأمثلة على ذلك كثيرة واضحة.
والاحتواء السياسي يأتي عن طريق الضغط العسكري والإعلامي من أجل فرض تسوية سياسية مماثلة للنموذج اللبناني العراقي السيئ، نموذج المحاصصة السياسية المقيتة. بحيث تكون السلطة موزعة بين مكونات المجتمع السوري، كأن يكون رئيس الجمهورية مسلما كرديا غير متدين بصلاحيات تنفيذية محددة، ويكون رئيس الحكومة مسلما عربيا غير متدين بصلاحيات تنفيذية محددة، ويكون رئيس مجلس النواب درزيا غير متدين بصلاحيات تشريعية محددة. هذا الأمر لا يمكن أن تقبله الجارة تركيا لأنه يهدد أمنها القومي، ولن تقبله حتى لو أدى الأمر إلى حدوث مواجهة مسلحة قد تقود إلى خروج تركيا من حلف الناتو. ويا ليتها تخرج لأن التحالف مع اليهود والنصارى محرم شرعا.
وكاتب هذه السطور يرى أن قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية كانت قد وقعت في خطإ كبير، حين أقامت علاقات استراتيجية مع النظام الذي كان يتزعمه حافظ الأسد، لمجرد كونه ينتمي إلى طائفة شيعية. وهذه الطائفة الشيعية هي الطائفة النصيرية التي تصنف في الفكر الإسلامي بأنها طائفة منحرفة عن الإسلام. وهذه الطائفة كانت قد ناصرت الكفار على المسلمين في فترة الحروب الصليبية على الشام، ثم فعلت الشئ نفسه أثناء فترة الاحتلال الفرنسي للشام. ذلك كما تفعل الطائفة الدرزية هذه الأيام في مناصرتها اليهود على المسلمين في جنوب سوريا (الطائفة الدرزية تصنف هي الأخرى في الفكر الإسلامي باعتبارها طائفة شيعية منحرفة عن الإسلام).
وتغيير اسم الطائفة النصيرية إلى الطائفة العلوية، نسبة إلى الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، ربما كان من مقترحات المستشرقين الفرنسيين حتى يتقبلها المسلمون. وقد قرأت أن مؤسسة الأزهر الشريف كانت قد أصدرت فتوى باعتبار أتباع هذه الطائفة مسلمين، حتى يتسنى قبول حافظ الأسد رئيسا لسوريا شعبيا، باعتباره مسلما. وكان ذلك بإيعاز من السلطة السياسية العلمانية في مصر آنذاك، وذلك استجابة لرغبات الدوائر الامبريالية الغربية آنذاك. يقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: "العلماء أمناء الرسل ما لم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا. فإذا خالطوا السلطان وداخلوا الدنيا فقد خانوا الرسل. فاحذروهم". ويقول الله تعالى مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: "والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه. إن الله بعباده لخبير بصير. ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا. فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ذلك هو الفضل الكبير." 32/35.
ولاية الفقيه وولاية المرابي
الفقيه في سياق هذه المقالة لا يقصد به شخص بعينه، بل هو صورة ذهنية تجريدية لها تجليات في كل زمان ومكان في العالم الإسلامي. فلا نقصد به هنا الإمام الخميني رحمه الله ولا السيد علي خامنئي أو السيد عبدالملك الحوثي حفظهما الله. فهؤلاء تجليات أو تمثلات للفقيه في إيران واليمن على التوالي، كما أن الشيخ الصادق الغرياني حفظه الله هو أنموذج الفقيه في ليبيا، وشيخ الأزهر أحمد الطيب حفظه الله هو أنموذج الفقيه في مصر، وهكذا في كل دولة من دول العالم الإسلامي. ويمكن القول إن الفقيه، بالمفهوم التجريدي الذي ذكرناه، لا يسيطر على الحكم إلا في خمس دول إسلامية هي أفغانستان وإيران وتركيا وسوريا واليمن العظيم، بناء على نظرية أن الذي يسيطر على الجيش والسلاح هو الذي يحكم. ففي هذه الدول الإسلامية الخمسة الطبقة المتدينة هي التي تسيطر على الجيش وعلى السلاح، أما في باقي دول العالم الإسلامي فالأمر مختلف، حيث يسيطر العلمانيون على الجيش والسلاح. ولا يفتأ المرابي يحاول إجهاض مثل هذا النجاح بكل ما أوتي من وسائل.
وفي التفصيل نجد أن الفقيه هو نفسه القائد الأعلى للقوات المسلحة في طهران وكابول وصنعاء، وهو ليس كذلك في أنقره ودمشق. فالرئيس التركي رجب أردوغان لا يعتبر أنموذجا للفقيه لأنه ليس فقيها، وهو لا يدعي أنه فقيه. فهو مسلم متدين يؤدي واجبات المسلم المتدين، ويتعلم الدين لنفسه، ولا يعلم الدين لغيره، ولا يمارس الفتوى. فهذا هو المسلم المتدين، أما الفقيه فهو من يتعلم الدين لنفسه، ويعلمه لغيره، ويمارس الفتوى. والفقيه لا يمكن له أن يقيم علاقة مودة مع اليهود. يقول الله تعالى: "لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا." 82/5. وما قيل عن الرئيس التركي رجب أردوغان ينطبق على الرئيس السوري أحمد الشرع.
ومفهوم المرابي كذلك لا نعني به الرئيس الأمريكي ولا ملك بريطانيا ولا رئيس فرنسا ولا غيرهم من زعماء الغرب الإمبريالي. بل إن كل واحد من هؤلاء، أو من يحل محلهم، ما هم إلا تماثيل للصورة الذهنية التجريدية لفكرة المرابي الإمبريالي الغربي، التي من خلالها تحاول الامبريالية الغربية الهيمنة على العالم كله، من خلال مراكمة الأموال عن طريق ممارسة الربا والاحتكار.
ومع إيماني التام بأنه لا يعلم الغيب إلا الله، فإنه يبدو لي من خلال استعراض التصارع الحضاري، الذي جبـَلَ الله عليه البشر ("ولولا دِفـٰع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض." 251/2)، يبدو لي أن الصراع بين الفقيه والمرابي هو الذي سيبقى ويدوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فأثناء فترة النصف الثاني من القرن الماضي كان العالم تقريبا منقسما إلى معسكرين: المعسكر الشيوعي بزعامة الإتحاد السوفييتي والمعسكر المرابي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. أما الفقيه فلم يكن بارزا بشكل ملحوظ، بل نجح المرابي في تسخير الفقيه لخدمته في مواطن كثيرة. فقد نجحت البروباغاندا الغربية إلى حد كبير في صرف الأنظار عن الجانب الاقتصادي الاشتراكي في النظرية الشيوعية، الذي كان مصدر انجذاب للطبقات الفقيرة خاصة، ونجحت في تصوير الشيوعية وربطها بالإلحاد ومعاداة الدين، والتركيز على ذلك لكي يتم تحشيد المسلمين في صف المرابي، الذي كان يـُصور في البرباغاندا الغربية بأنه مدافع عن الدين. ذلك رغم أن المسلمين الذين يعيشون في البلدان الشيوعية كانوا يمارسون شعائرهم الدينية بحرية تامة.
وعندما انهارت الشيوعية في نهاية القرن الماضي ظهرت بعض النظريات لتقول بأن ما حدث هو نهاية التاريخ، وأن نظرية المرابي هي النظرية الأصلح للبشرية. لكن سرعان ما أدرك المرابون أنه لا يمكنهم العيش بازدهار وتعالي على الطبقات الفقيرة في المجتمعات البشرية إلا إذا وُجد عدو افتراضي، يكون وجوده مبررا لشن الحروب ونشر الفتن بين المجتمعات الأخرى. فجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001 لتكون انطلاقة لسلسلة من الحروب الصليبية على المسلمين، فبدؤوا بأفغانستان وثنوا بالعراق، ثم استمرت الحروب على المسلمين المتدينين المتمسكين بدينهم حيثما وُجدوا. ذلك لأن المرابي يعتقد أن العقبة الكبيرة أمامه هي الفقيه. ورغم أن كثيرا من المسلمين ما زالوا يتعاملون بالربا إلا أن الآيات المحكمات في القرآن الكريم تحرم الربا تحريما لا مجال فيه للتأويل أو الشك. والمرابي لا دين له إلا المال وإلا المال. المال الذي يراكمه من خلال ممارسة الربا. وهذا هو أسّ العداوة، في اعتقادي، بين المرابي والفقيه.
نظرية التابع والمتبوع
في إحدى ليالي الشتاء الذي سبق خروج الجيش السوري من لبنان ركبتُ سيارة تاكسي في مدينة أوتاوا بكندا عائدا إلى البيت، وصادف أن كان سائق التاكسي كنديا من أصل لبناني. ونحن نتحدث خطر ببالي سؤال عن معاملة الجيش السوري للمدنيين في لبنان. ذلك لأن وسائل العار والبروباغاندا العربية كانت في ذلك الوقت تقوم بحملات إعلامية واسعة من أجل التحريض على الدعوات إلى خروج الجيش السوري من لبنان. فقلت له هل صحيح ما يثار في الإعلام أن عناصر الجيش السوري في لبنان يعاملون السكان في لبنان معاملة سيئة؟ فقال لي: ذلك غير صحيح. فأفراد الجيش السوري منضبطون تماما، ولا يتعاملون مع الناس إلا حسب الضوابط. واستطرد قائلا: لكننا نريد أن نستقل في بلادنا. فقلت له إن لبنان مكتوبة عليه التبعية بحكم الجغرافيا والديموغرافيا وعوامل أخرى. فإما أن يكون تابعا لسوريا أو تابعا للكيان اليهودي. فقال لي لم أفهم ما الذي تقصده. فقلت له إن علماء الفلك يقولون إن القمر يدور حول الأرض لأنه أصغر حجما منها، وإن الأرض تدور حول الشمس لأن الأرض أصغر من الشمس. ونحن البشر نعتمد على آبائنا وأمهاتنا ونحن صغار ضعاف، فإذا كبرنا واشتدت قوتنا يصير آباؤنا وأمهاتنا هم الذين يعتمدون علينا. فهذه هي قوانين الطبيعة التي أوجدها الله تعالى: الصغير والضعيف يتبع الكبير والقوي ويعتمد عليه. ولبنان بحكم الجغرافيا والظروف التاريخية هو صغير وضعيف بالضرورة، وبحسب علمي أن اللبنانيين الذين يعيشون خارج البلاد أكثر من الذين يعيشون داخلها. فسكت قليلا ثم قال: إذا حضر اللبنانيون الذين يعيشون في الخارج جميعا في وقت واحد إلى لبنان فلن يسعهم حتى إذا كانوا واقفين. وآخر ما أتذكره من تلك القصة أنه حين أوصلني إلى البيت رفض أن يأخذ مني الأجرة، رغم إلحاحي على الدفع. عوّضه الله خيرا من ذلك، آمين.
*الدكتور: عبدالحميد الهادي قدوع، أستاذ في اللسانيات، جامعة طرابلس
a.gadoua@uot.edu.ly
Comments