بقلم شربل عبدالله أنطون
تُشير تصريحات توم برّاك الأخيرة بشأن لبنان و"حزب الله" وإسرائيل إلى تحول جذري في السياسة الأميركية، ابتعاداً عن الدبلوماسية اللامتناهية واقتراباً من مهل نهائية صارمة. لعقود، شُلَّ لبنان بسبب الفساد وهيمنة الميليشيات، خاصة "حزب الله". تُوضِّح مقابلة برّاك بأن الولايات المتحدة قد سئمت الانتظار. فإما أن يتحرك لبنان لنزع سلاح "حزب الله"، أو أن تفعل إسرائيل ذلك بدعم من واشنطن. يتطلب هذا التحول في موقف واشنطن دراسةً أدق، إذ يُشكِّل الأفق الاستراتيجي للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط.
نهاية الدبلوماسية المفتوحة
لطالما واجهت واشنطن معضلة التوفيق بين دعمها لسيادة لبنان وواقع تنامي قوة "حزب الله" كميليشيا مستقلة كبيرة جداً ومدعومة إيرانياً وسورياً (نظام الأسد). كلمات توم برّاك الصريحة عكست هذا المأزق: "كل ما يفعلونه هو الكلام. لم ينفذوا خطوة واحدة. أعطيناهم خطة، ولم يلتزموا". هذا الإحباط يكشف تآكل الثقة بالطبقة السياسية اللبنانية التي يعتبرها برّاك مرتهنة لـ "اقتصاد نقدي موازٍ" يغذي نفوذ "حزب الله" ويقوّض مؤسسات الدولة.
أصبحت رسالة الولايات المتحدة الآن واضحة لا لبس فيها: فالتواصل الدبلوماسي له حدود، ولم يعد بإمكان الحكومة اللبنانية الاختباء وراء الخطابات. إن دعم مؤسسات الدولة اللبنانية مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بالتقدم الفعلي في نزع سلاح "حزب الله". ولا تترك نبرة برّاك مجالًا للغموض: "إذا لم يساعدوا أنفسهم، فلن يُضيع الرئيس ترامب وقته وجهده". وهذا يُمثل تحولًا جوهرياً عن الدبلوماسية المفتوحة نحو مساعدة مشروطة تستند على النتائج.
إسرائيل كمنفذة: "الخطة البديلة" الحتمية
كان برّاك صريحاً بنفس القدر بشأن ما سيحدث في حال فشل لبنان: "القدس ستتولى أمر "حزب الله" نيابةً عنكم". بمعنى آخر، ستتحرك إسرائيل عسكرياً، بغطاء سياسي أميركي، ولكن دون وجود قوات أميركية على الأرض. هذه هي الخطة البديلة : حملة إسرائيلية ضد "حزب الله" إذا لم يستطع لبنان أو لم يُرد القيام بذلك.
يُكرر باراك تصريحات بعض صقور المشرعين الجمهوريين، مثل السيناتور ليندسي غراهام، الذين حذروا من أن إسرائيل لن تُغير موقفها حتى يتخذ لبنان خطوات ملموسة ضد "حزب الله". والمعنى واضح: ترى إسرائيل أن نزع سلاح "حزب الله" أمر غير قابل للتفاوض، وتربط أي مناقشات للانسحاب بامتثال لبنان. وهذا يُشير فعلياً إلى استراتيجية أميركية-إسرائيلية مشتركة تُعطي الأولوية بثبات لمواجهة القوة العسكرية لميليشيا إيران في لبنان، بينما تُعلق واشنطن الأمل على الإصلاح في لبنان كخيار مُفضل، ولكنه فاشل.
ثقة مشروطة بالقيادة اللبنانية
يتميز النهج الأميركي بدقته في تقدير القيادة السياسية اللبنانية، وخاصةً فيما يتعلق بالرئيس جوزيف عون، الذي تعتبره واشنطن غير ملوث بالفساد وقادراً على الإصلاح. يُعرب توم برّاك عن احترامه الكبير لخلفية عون العسكرية وفهمه للتحديات الهيكلية التي يواجهها لبنان. ومع ذلك، فإن الثقة مشروطة بالنتائج، والرسالة واضحة: إصلاح ومحاسبة حقيقية، ورفض الاكتفاء بالوعود. الإدارة الأميركية تتوقع من القيادة اللبنانية كسر قبضة "حزب الله" على المؤسسات وتجفيف شبكاته المالية، وخنق شبكات الفساد التابعة له، وتعزيز جهود نزع السلاح. بدون إحراز تقدمٍ حاسم، يُواجه دعم واشنطن خطر التوقف، مما يُزعزع التوازن الهشّ أصلاً في لبنان.
النفوذ الاقتصادي وقطع شرايين الحياة عن "حزب الله"
استراتيجية واشنطن لا تقتصر على الضغط العسكري والدبلوماسي فحسب، بل تشمل أيضاً البعد الاقتصادي. فقوة "حزب الله" لا ترتبط بالسلاح فحسب، بل باقتصاد نقدي موازٍ تموله إيران والتهريب وتجارة الممنوعات. ويُعدّ تعطيل هذا الشريان المالي هدفًا أساسياً. لذلك تسعى واشنطن إلى تشديد العقوبات، تعزيز الشفافية المالية، وتوجيه الاستثمارات نحو الاقتصاد اللبناني الرسمي كبديل عن اقتصاد الظل الذي دمّر حياة اللبنانيين لحساب حزب إيران وأزلامه.
تأخذ سياسة واشنطن في الاعتبار واقع طموحات إيران الإقليمية والعزم الدولي المتزايد على إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على النظام الإيراني. ويزيد انسحاب إيران المُحتمل الوشيك من معاهدة حظر الانتشار النووي من حدة المخاطر، مما يُضيف إلحاحاً إلى الجهود الأميركية لتفكيك "حزب الله" كوكيل لإيران في لبنان.
مخاطر تصعيد الصراع
هذه المقاربة التصاعدية تحمل مخاطر كبيرة. فشل لبنان في الاستجابة قد يفتح الباب أمام مواجهة عسكرية إسرائيلية واسعة مع "حزب الله"، ما يهدد استقرار لبنان والمنطقة. إن رفض واشنطن نشر قوات برية في لبنان يجعل إسرائيل الطرف الرئيسي المُنفّذ. ومع ذلك، تبدو إدارة ترامب مُستعدة لقبول هذا الخطر، مُعتبرةً التقاعس مسؤولية استراتيجية أكبر. تُجسّد تصريحات برّاك رؤية استراتيجية أوسع: اضعاف "حزب الله" لاستعادة دولة لبنانية مستقرة وذات سيادة، وإن كان ذلك من خلال مرحلة انتقالية مؤلمة.
وصفة استراتيجية للسياسة الأميركية
السياسة الأميركية في هذه المرحلة تقوم على: مطالب دبلوماسية صارمة، ضغوط اقتصادية، ودعم عسكري إسرائيلي؛ يُعدّ نزع سلاح "حزب الله" شرطًا مسبقاً لأي دعم أميركي جدي ولأي أمل بإنعاش لبنان سياسياً واقتصادياً.
ينبغي على الولايات المتحدة مواصلة دعم قوات الأمن الشرعية في لبنان، مع التنسيق الوثيق مع إسرائيل للحد من تصعيد الصراع خاصة ضد مؤسسات الدولة اللبنانية وقواها العسكرية.
وأخيراً، ينبغي تصميم مساعدات إعادة الإعمار الاقتصادي، المشروطة بتقدم الإصلاح ونزع السلاح، لتقويض الأسس المالية لـ "حزب الله" وتمكين حكم الدولة. توفر هذه الاستراتيجية متعددة الجوانب للبنان أفضل فرصة لاستعادة الاستقرار، وتجنّب العواقب الوخيمة لاستمرار هيمنة ميليشيا إيران وأتباعها من السياسيين والموظفين والتجّار.
خيار لبنان الحاسم: الإصلاح أو الانهيار
تكشف تصريحات توم برّاك أن السياسة الأميركية تجاه "حزب الله" وإيران قد دخلت مرحلة جديدة وحاسمة. لقد ولّى عصر الدبلوماسية المخففة. لبنان أمام خيار صارخ: نزع سلاح "حزب الله" أو تحمّل الضغط العسكري الإسرائيلي المتصاعد بدعم أميركي.
تمتد المخاطر إلى ما وراء حدود لبنان - فهذا اختبار حاسم للنفوذ الأميركي في الشرق الأوسط ولحظة محورية في الصراع لكبح جماح الميليشيات المدعومة من إيران. إن موقف إدارة ترامب المتشدد - الذي يجمع بين المساعدات المشروطة والعقوبات الاقتصادية والدعم العسكري لإسرائيل - يُشير إلى واقع جديد لا يمكن للقادة اللبنانيين تجاهله. بالنسبة للبنان، الخيار واضح: نزع سلاح "حزب الله"، تحقيق الإصلاح وإعادة الاندماج في المجتمع الدولي، أو صراع طويل الأمد يُقوّض أي أمل في السيادة والاستقرار. إن سياسة واشنطن، التي شحذتها تحذيرات برّاك الصريحة، تتطلب من لبنان اتخاذ إجراءات حاسمة، والوقت ينفد.
Comments