د. إسماعيل المسلماني *
شهدت الضفة الغربية والقدس في السنوات الأخيرة تصعيدًا خطيرًا يتمثل في تكثيف نشر البوابات والحواجز العسكرية التي تقيمها سلطات الاحتلال، في إطار سياسة محكمة للسيطرة على حركة الفلسطينيين، وتقييد إمكانية التواصل الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي بينهم. فحتى منتصف عام 2025، بلغ عدد الحواجز والبوابات العسكرية في الضفة الغربية 898 حاجزًا وبوابة، بينها 18 بوابة جديدة نصبت منذ بداية العام نفسه. أما في مدينة القدس وضواحيها وحدها، فقد أقام الاحتلال نحو 88 بوابة حديدية، ما يعكس توجهاً متعمداً لتحويل هذه الأدوات إلى منظومة حصار شاملة. هذه البوابات لم تعد مجرد إجراءات "أمنية" مؤقتة كما يدّعي الاحتلال، بل غدت جزءًا من البنية التحتية الدائمة التي تعيد تشكيل الجغرافيا الفلسطينية بما يخدم أهداف السيطرة والعزل، إذ تعيق وصول الفلسطينيين إلى المدارس وأماكن العمل والمستشفيات، وتحول حياتهم اليومية إلى جحيم مستمر.
الآثار المترتبة على هذه السياسة بالغة العمق، إذ تخلق واقعًا نفسيًا واجتماعيًا ضاغطًا. فمن جهة، يعاني السكان من فقدان الشعور بالحرية والكرامة نتيجة تفتيشهم اليومي وتعرضهم للإذلال على هذه الحواجز، وهو ما يؤدي إلى تراكم الغضب والاحتقان. ومن جهة أخرى، ينعكس إغلاق البوابات بشكل مباشر على الاقتصاد المحلي، حيث تتضرر الحركة التجارية، ويتكبد المزارعون خسائر فادحة نتيجة صعوبة نقل منتجاتهم، إضافة إلى تراجع فرص العمل بسبب تعطيل التنقل بين المدن. كما تسهم هذه البوابات في تقطيع أوصال الضفة بحيث تفقد المدن الفلسطينية ترابطها الطبيعي، وتُدفع الأجيال الشابة إلى الإحباط واليأس، وهو ما يحمل تداعيات خطيرة على استقرار المجتمع وتماسكه. الأثر الأهم يكمن في تحويل الجغرافيا الفلسطينية إلى فسيفساء من الجزر المعزولة، الأمر الذي يضعف إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وفق القرارات الدولية.
توقيت وضع المزيد من هذه البوابات ليس بريئًا، بل يأتي في سياق سياسي متشابك يرتبط بالتحولات الإقليمية والدولية، وكذلك بصراعات الداخل الإسرائيلي. ففي ظل الضغوط الدولية المتزايدة على إسرائيل بسبب الاستيطان والاعتراف المتنامي بالدولة الفلسطينية، تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى فرض حقائق ميدانية تعرقل أي إمكانية للتسوية. كما أن تكثيف البوابات يخدم أهدافًا داخلية، حيث يستخدم قادة اليمين الإسرائيلي ملف "الأمن" لتبرير سياساتهم أمام جمهورهم وحماية ائتلافاتهم الحاكمة. أما على مستوى الدلالات، فإن هذه الخطوة تعبّر عن انتقال الاحتلال من مرحلة السيطرة غير المباشرة إلى مرحلة إدارة الحياة الفلسطينية بأدق تفاصيلها، من التنقل اليومي حتى العلاقة بين القرى والمدن. إنها محاولة لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يتناسب مع منطق القوة والهيمنة، في لحظة تاريخية حساسة يسعى فيها الاحتلال لتثبيت معادلات جديدة قبل أي تسوية قادمة.
إن انتشار البوابات والحواجز في الضفة الغربية والقدس، والتي بلغ عددها حتى منتصف عام 2025 نحو 898 حاجزًا وبوابة، بينها 88 في القدس وحدها، يعبّر عن سياسة إسرائيلية ممنهجة تتجاوز البعد الأمني إلى مشروع استراتيجي يرمي إلى تفكيك الجغرافيا الفلسطينية وإحكام السيطرة على حياة السكان. هذه المنظومة لا تقتصر آثارها على عرقلة الحركة اليومية وإضعاف الاقتصاد، بل تمتد لتقويض إمكانات بناء مجتمع فلسطيني متماسك ودولة مستقلة قابلة للحياة. إن تكثيف نصب البوابات في هذا التوقيت بالذات يعكس محاولة الاحتلال فرض وقائع سياسية وجغرافية جديدة قبل أي تسوية محتملة، ويشكل رسالة واضحة بأن السيطرة الميدانية هي الأداة الأبرز لترسيخ مشروعه الاستيطاني والإقصائي. وبذلك، فإن جحيم البوابات لا يمثل مجرد انتهاك إنساني، بل هو مؤشر خطير على مسار الصراع وتوجهاته المستقبلية.
*مختص بالشان الإسرائيلي
Comments