بقلم: ألفة السلامي
يعتقد "النجار" أن طفله قابل للتشكيل. نظرية النجار في التربية الحديثة تعتمد على تشكيل كتلة خشبية إلى كرسي أو أي قطعة أثاث، قد يكون المنتج النهائي جميلا ومريحا لكنه يبقى محكوما بالنجار بنسبة 100% وموقع القطعة في المنزل. وهكذا الطفل بالضبط إذا لم يكتسب مهارات مناسبة وقراءة الكتب لتنمية خياله واللعب لتطوير عضلاته ومداركه ليصبح شخصًا بالغًا مميزًا. أما "البستاني" في نظرية التربية الحديثة فلا يهتم بالتحكم في شخصية الطفل المستقبلية بقدر اهتمامه بتوفير مساحة آمنة للاستكشاف، بحيث تكون بيئة غنية متغيرة ومتنوعة ومبتكرة.
الآباء والأمهات يقلقون كثيرًا ويبذلون جهودا خرافية من أجل تربية أطفالهم بينما الأطفال لا يحتاجون كل تلك الجهود ليستمتعوا ويفرحوا وينجحوا؛ إنهم يزدهرون عندما يُمنحون الحرية. لكننا في عالمنا العربي ننزعج من الحرية ونرتاح للأوامر والطاعة والانصياع، خاصة أن الغالبية تربوا بهذه الطريقة، أي الاتجاه الواحد، يعني استقبال دون ردّ، مثل كرة المضرب، تُضربُ فتندفع بدون وجهة محددة. من يضرب الكرة هم الوالدان بينما يكون الأبناء سلبيين مثل كرة المضرب. وعادة، فاقد الشيء لا يعطيه لكن هذا أدعى للمحاولة. لكن الآباء غالبا لا يحاولون بشكل كاف بل يرتاحون أكثر لنفس طريقة الأوامر التي تربوا بها لأنها أسهل وتختصر الوقت والجهد، رغم كونها قد تربي جيلا مهزوما بلا شخصية، مستبدا صغيرا تحت الجلد، ومستبدا كبيرا فوق الجلد وفي العلن بمجرد تملك عناصر السلطة داخل عائلته أو في شغله أو حتى في محيطه. التربية الحديثة توصي الآن عندما يتعلق الأمر برعاية الأطفال، "كن بستانيًا لا نجارًا.
كتاب "البستاني والنجار" من تأليف أليسون جوبنيك (ولدت في 16 يونيو 1955) وهي أستاذة أمريكية في علم النفس والفلسفة بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، واشتهرت بعملها في مجالات التطور المعرفي، يضيء هذه الأبعاد في منهجين متباينين لتربية الأطفال، هما منهج "النجّار" ومنهج "البستاني". وبقدر ما يكون الأول مستندا على تاريخ ماضوي موروث من الوالدين بقدر ما يعتمد الثاني على الابتكار والتطور وتفتق مواهب الطفل من خلال الاستكشاف الذاتي.
ومن عيوب منهج النجار في التربية أن الآباء الجدد يشكلون أطفالهم للنجاح في سلسلة من المهام الحياتية مبكرا، ومنذ سن الثالثة أحيانا، ولكنهم يقفزون المراحل وكأنهم يحضرون الأبناء لامتحانات شهادة الثانوية العامة أو الباكالوريا غدا، وليكونوا طلابا لائقين بعد غد لدخول معهد بوليتكنيك أو جامعة هارفارد أو جامعة كامبردج. ولكن في هذه العملية، كما تجادل جوبنيك، قد ينتهي بنا الأمر إلى الحد من الإمكانات التي نحاول تعزيزها، خاصة وأن الأطفال يزدهرون أكثر عندما يُتركون أحرارًا للاستكشاف. كما أنهم يتعلمون من أخطاء الكبار بقدر ما يتعلمون من تعليماتهم وأوامرهم. والمأزق في هذا المنهج كيف يحجم الآباء تدخلاتهم لأن مهمة البستاني ليست تشكيل عقول الأطفال بل يدع هذه العقول تستكشف جميع الإمكانات التي يتيحها العالم.
هناك نقد يوجهه علماء التربية الحديثة للنموذج الغربي -ومرجعيته الولايات المتحدة وبريطانيا أو حتى فرنسا-ويعتبرها نماذج فاشلة لم تخلق التميز لدى غالبية مواطنيها. قد نفتح أفواهنا مستغربين من هذا النقد بينما قد يرى البعض منا، خاصة القائمين على العملية التربوية حاليا، أن هذه المرجعية هي بمثابة المدينة الفاضلة التي يحلمون بتحقيقها في مجتمعاتهم النامية. لكن لنفحص بداية الرؤية النقدية فقد تكون محقة في ذلك.
إن النقد موجه لنظام التعليم الأكثر تركيزاً على "النتائج" في الغرب، منذ الطفولة المبكرة وفي شكل درجات الاختبارات، بينما يعامل الأطفال الذين لا يتناسبون مع متطلبات المدرسة كما لو كانوا مرضى أو معيبين أو معاقين. ويقترح بدلاً من الهوس بدرجات الاختبارات، أن يهتم المجتمع بالأطفال أكثر، خاصة من الطبقة الوسطى والفقيرة، بأقل ما يمكن من التدخلات خلال سنوات الطفولة المبكرة، بحيث يكونون أكثر صحة واستمتاعا.
وهناك نقد للمجتمعات الحديثة الميسورة التي تتعامل مع تربية الأطفال بطريقة خاطئة. تشعر عائلات هذه الطبقة بضغط هائل لتربية أطفالها بطريقة تجعلهم صالحين. تأخذهم إلى تدريبات كرة القدم ودروس السباحة والكاراتيه والباليه؛ ثم تدفعهم لاحقًا لإكمال منافسات دولية أو ربما أولمبية للحصول على الجوائز. تدقق في حقائب كتبهم بقلق كل ليلة، وغالبا ما تشعر بالذنب لتقصيرها في ذلك. القلق دائم بشأن ما إذا كانوا يحصلون على قسط كافٍ من النوم، أو يكوّنون صداقات كافية. هناك ميل للتساؤل باستمرار عن خيارات الآباء والأمهات. هل يعملون كثيرًا أم قليلًا؟ هل يوفرون لهم الحماية الكافية أم لا. وهي أسئلة خاطئة بالأساس، حيث يجب التفريق هنا بين نظرة الآباء لرعاية الأطفال باعتبارها "شكلا من أشكال العمل" وبين النظرة المفترض أن تكون، وهي شكل من أشكل الحب.
في الحالة الأولى، يُحكم على الآباء بعدم الرضا، لأنها مهنة لا هوادة فيها، غير مُجزية، فوضوية، بلا حدود للوقت، وغير مدفوعة الأجر. في الحالة الثانية، تكون "نوعا رائعا من الحب" وإذا حضر الحب تسقط كل الحسابات الأخرى. ومن هنا جاءت استعارة البستاني والنجار لتوصيف علاقة الوالدين بالطفل. لا يستطيع البستاني أن ينتج الورود بمفرده. بدلاً من ذلك، فإنه يهيئ التربة أولا لكي تحظى فيها النباتات بأفضل فرصة للازدهار. ويعرف البستاني أن الخطط غالبًا ما تُحبط. فقد تظهر الأعشاب الطفيلية وسط الورود وقد تؤثر على الورود ورائحتها ونضارتها وألوانها، كما قد تحتاج التربة لتهويتها وتعزيزها بالسماد حتى يمكن هزيمة البقع السوداء والصدأ وربما يهاجم المن النباتات والتربة.
هكذا، إذا كان الآباء والأمهات مثل البستاني، فإن الهدف إنشاء مساحة غنية يمكن للأطفال أن يصبحوا فيها أنفسهم، بدلاً من محاولة تشكيلهم.
Comments