بقلم: محمد زريق
إنَّ أخطر ما يمكن أن يُهدد الحياة الديموقراطية والمسيرة الوطنية هو الشعب الذي تنقصه الثقافة الوطنية. إنَّ الشعب الذي لا يُقدّر قيمة الانتماء إلى وطن اسمهُ لبنان، سوف يبيع وطنه عند أول مُفترق طرق وستكون المصلحة السياسية أو الحزبية أو الطائفية أو المادية هي سبباً مباشراً في بيع وطنه وتسليمه إلى الغرباء، وبالتالي وضع لبنان على سكة الدمار والخراب السياسي والاجتماعي. طالما حذرتُ من أن يكون وطننا هو ضحية أفعال وآراء بعض الأطراف والشركاء في الوطن، ولكن مرحلة التحذير من المخاطر لم تَعُد تنفع لأنَّ لبنان اليوم قد وصل فعلاً إلى الهاوية وتعدى الخطوط الحمراء سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وديموقراطياً.
إنَّ لبنان، الوطن الجميل والمقدّس والفريد، الذي اصطفاه الله أرضاً للقدّيسين ومركزاً للحضارات المتوالية عبر العصور، ها هو اليوم تسكنهُ جماعات متناقضة تتحدث عن الشراكة، ولكن أفعالهم تدل على شراكة الخوف من الآخر والاستقواء والتشبث بالرأي. ربما هي لعنة الجغرافيا التي جعلت من لبنان فريسة المصالح والمطامع الاقليمية أو لعنة التمذهب السلبي الذي يضرب وطننا منذُ الاستقلال إلى يومنا هذا، ويوماً بعدَ يوم تصبح مسألة التخلص من المرض الطائفي أو حتى الاستقلال الوطني أمراً صعباً لا بل مستحيلاً.
يُحكى أنهُ في مثل هذهِ الأيام يحتفل الشعب اللبناني باستقلال وطنه ودحر الجيوش الأجنبية عن أراضيه (عنيتُ هنا الجيش الفرنسي). وكلما سمعتُ عبارة استقلال أو اقتراب موعد حلول هذه الذكرى تجتاحني مشاعر مجبولة بالحزن والفرح، فلا أعلم ما إن كنتُ سأبكي أم أضحك، أبكي على وطنٍ لم يعرف معنى الاستقلال يوماً وقد ألبسوه ثوب الاستقلال ولكن هذا الثوب لم يخلق له، وأضحكُ على شعبٍ قد صدّقَ الكذبة ويحتفل بعيدٍ اسمه الاستقلال اللبناني، ولكن يا شعب لبنان عن أي استقلال تتحدثون؟
حدّثوني عن الاستقلال عندما تصبح دولتنا قادرة اقتصادياً ولا تلهث وراء جيوب الدول الأجنبية في العواصم الأروربية والعربية، حدّثوني عن الاستقلال عندما يصبح الولاء للوطن وليس للزعيم أو الطائفة أو الحزب أو العشيرة، حدّثوني عن الاستقلال عندما توفّر الدولة التعليم الجيد لأولادنا في المدارس الرسمية وعندما تتحول دولتنا من دولة تنفيعات إلى دولة قانون ومؤسسات، دولة رعاية إجتماعية تحترم المسن وتوفر له العناية الطبية ولا تلتهي بالأحداث والصراعات الاقليمية والدولية بل يكون التركيز على بناء الوطن.
إنَّ لبنان هو وطن صغير، من أصغر دول العالم، لذلك يجب أن ندرك جيداً بأنَّ الحل الأول والنهائي هو تحييد لبنان وعدم إشراكه لا اليوم ولا الغد في الصراعات الدولية لأنهُ ليس قادراً على دفع ضريبة هكذا قرارات. إنَّ لبنان ليس بالدولة النووية وليس بالدولة الاشتراكية ولا حتى هو دولة نفطية، يجب أن نعي أن وطننا هو وطن رسالة، وهذا أسمى ما يمكن أن يصل أي وطن إليه. إنَّ لبنان هو أرض لحوار الحضارات والثقافات، وهو نقطة التقاء الشرق والغرب للتفاعل والتقارب، إن هذا الوطن لم يُخلق ليكون ساحة حرب وشعبه لم يعرف سوى المحبة والبساطة.
أنتم أردتم تدمير لبنان، إن كل دولة إقليمية ودولية عرفت قيمة هذا الوطن وأهميته الفكرية والحضارية والثقافية، قد رصدت لهُ الأموال من أجل تدميره وترويض شعبه، لأنَّ لبنان هو وطن فريد لا شبيه له بالمكونات الثقافية لا إقليمياً ولا دولياً. وللأسف نجحت أيدي الشر، وها هو وطننا اليوم يمُر بأبشع المراحل من تاريخه، فلا حكومة تؤلّف والنفايات مرمية على الطرقات والعائلات السياسية تسيطر على الوطن وحركة الهجرة تزداد يوماً بعدَ يوم. وللأسف لم أرى رجلاً يقف ويقول كلمة "لا"، أمام هذا الجبل الضخم من المشاكل.
أيها اللبنانيون، أيا كنتم وأنى كنتم، أدعوكم إلى تحسس مدى المسؤولية التاريخية، إلى وضع حد نهائي للإنقسام والتعصب وسوء الظن والفهم، إلى وقف المماراسات البالية والإتهامات الباطلة، إلى إزالة الأحقاد وتصفية القلوب، إلى رفع الحواجز وتكثيف التلاقي لنبدأ فورا مسيرة الإنقاذ وورشة الإعمار والنهضة الكبيرة. أدعوكم، مواطنين ومسؤولين إلى الإلتفاف حول الشرعية. أدعوكم إلى بناء دولة الأمة. أدعوكم إلى وقفة واقعية تعي المتغيرات فتقتنعوا بها وتتكيفوا معها.
أيها اللبنانيون، أدعوكم وأناشدكم وأستصرخ ضمائركم الحية إلى اليقظة والوعي الوطني، لأنَّ ما يمُر بهِ وطننا اليوم ليس بالسهل وهو يحتاجكم جميعاً، على أمل أن يكون استقلالنا في السنوات القادمة مُشرّفاً وأن نبرهن بأننا فعلاً شعب قادر على تحمل المسؤولية وعلى الانتماء لوطن اسمه لبنان.
Comments