bah الرأسمالية الإنسانية - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

الرأسمالية الإنسانية

12/20/2018 - 18:25 PM

absolute collision

 

بقلم الدكتور لويس حبيقة

هنالك قلق حول مستقبل النظام الاقتصادي الرأسمالي.  النتائج السابقة ليست جيدة لكن المشكلة تكمن خاصة في غياب البدائل الواقعية المبنية على أسس سليمة ويمكن أن تعطي نتائج أفضل.  هل يمكن معالجة أي داء بالوسائل والعلوم والأفكار التي سببت حصوله؟  أم يجب التفتيش عن أدوية جديدة تعالجه وتمنع تكراره في المستقبل؟  هل يمكن القول أن النظام الاقتصادي الحر فعلا انتهى؟  هل المطلوب اليوم قيود كبيرة أمام تحرك السلع والخدمات والأموال وربما أمام الأشخاص؟  هل المطلوب ضرب بعض الحريات كما يطالب به بعض القادة الأوروبيين ويمارسه بوضوح دونالد ترامب ويظهر أن الرئيسين الجديدين في البرازيل والمكسيك يرغبان به.  هنالك موجة جديدة من القلق والحذر تريد دفع العالم باتجاه معارض لاتفاقيات الوحدة والتعاون وتطالب باغلاق الحدود بين الدول.  حتى بريطانيا اليوم وبعد البريكسيت ستضع قيودا أمام تحرك الأوروبيين اليها وهذا ما لم نشهده منذ عقود طويلة.  العالم يتغير بسرعة سلبا، لكن السؤال الأهم هو هل هذا التغيير مؤقت أو دائم وبالتالي هل سيتشدد أكثر فأكثر؟

ما هي الوقائع التي يعاني منها العالم التي سببت هذه الانتفاضات الانتخابية في أميركا وثورة السترات الصفر في فرنسا ومنها الى بلجيكا وغيرها؟  ما الذي يقلق المواطن العادي ويدفعه الى التصرف بعنف وخوف دون حساب للخسائر والأرباح؟

أولا:  توسع فجوة الثروة والأخطر الدخل.  لا شك أن للعولمة منافعها الكبيرة في زيادة النمو والانتاج وتقريب المسافات بفضل الاتصالات والنقل، الا أن الفقير لم يستفد من النمو كالغني وارتفعت الفجوة.  هذا غير مقبول اليوم في وقت يرى المواطن كيف يعيش غيره ولا يفهم لما عليه التضحية كي يعيش الآخر في بحبوحة أفضل.  لم يعد عرق الجبين يعطي المادة كما كان في الماضي البعيد، بل أصبحت الثروة تأتي أكثر بكثير من الصفقات والفساد والابتزاز والاحتيال.  لم يعد الفاسد يستحي في العلن بل يتجاهر بفساده حتى عبر الاعلام، اذ أن المؤسسات والقوانين لا تطبق في أكثرية الدول والأزمنة.  كم تكلم العالم عن الجنات الضرائبية وأوراق باناما وغيرها من الأماكن التي يخبي فيها الأغنياء الأموال المكتسبة بالطرق المختلفة ولم يتم أي حساب أو عقاب؟  السلطات الرسمية مقصرة تجاه الفاسدين، ربما لأن تضارب المصالح يسيطر على مراكز القرار في معظم الدول حتى لا نقول جميعها.  هنالك من يتكلم اليوم عن "عنف المال" أي تحصيل الثروة بكافة الطرق ومهما كانت الأثمان حتى لو وقعت الضحايا في البيئة والأرواح والمادة.

ثانيا:  هنالك سؤ توزع للادخار والمال أفرز انتخاب دونالد ترامب ويؤدي الى تصرفات السترات الصفر.  هنالك دول ومناطق في العالم تدخر الأموال وفي مقدمها مناطق شرق أسيا وأخرى تنفق الكثير وتقترض من أسيا وأهمها الولايات المتحدة والغرب الأوروبي عموما.  هذا التغير في الهيكلية الادخارية العالمية أنتج سؤ توازن في القوة والنفوذ لم يعرفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية.  فالغرب مثلا لا ير لماذا ينتج ويصدر العلم والتكنولوجيا لمناطق أصبحت أغنى منه؟  لا يفهم لماذا عليه أن يعطي أكثر مما يحصل؟  هل على الغرب حماية الدول أمنيا وسياسيا واقتصاديا وفي الوقت نفسه تقع التكلفة المالية عليه؟  هذا رأي ترامب ويطالب اوروبا بدفع ثمن الحماية الأمنية.  هذا سبب رغبة ترامب بالانسحاب من بعض المناطق التي لا يرى فيها فائدة من البقاء، ولا يوجد من يقوم بتسديد التكلفة مقابل المخاطر والجهد والوقت.  ما يفعله ترامب اليوم بشأن الانسحابات الأمنية والعسكرية يغير معها السياسات الأميركية القائمة منذ الحرب العالمية الثانية والتي حافظ عليها جميع الرؤساء الأميركيين من جمهوريين وديمواقراطيين.

ثالثا:  السياسات النقدية السابقة المرتكزة على الانفلاش أي فوائد منخفضة شجعت على المضاربات والمغامرات في السوق محدثة فقاعات مالية أنتجت أزمات كبيرة كل عشر سنوات تقريبا.  سببت الفوائد المنخفضة تهورا في الاستثمار أي تفضيل الربح السريع على النتيجة الطويلة الأمد.  أحدثت الأزمات بطالة كبيرة، فلا بد من وضع سياسات نقدية معاكسة أي ترفع الفوائد كما يحدث اليوم من قبل المصرف المركزي الأميركي.  هنالك خوف من التضخم بل خوف أكثر من حدوث فقاعات جديدة تدفع العالم نحو الركود أو السقوط كما حصل في سنة 2008.

رابعا:  تحققت الرأسمالية على وقائع الجشع أي على الرغبة في زيادة الغنى والمنافع مهما كانت التكلفة.  أصبح المواطن كالماكينة التي يجب أن تستمر في التحرك لجني المال دون أن يشعر الانسان بلذة انفاق ما جناه.  هنالك هدف مادي طغى على الأهداف الأخرى منع الانسان من تذوق لذة الحياة فأحس دائما بالغضب وعدم الرضى أي أفقده لذة العيش والاستمتاع بالغنى الماضي.  أصبح هنالك سباق على الثروة التي يجب أن تكون وسيلة لتحسين مستوى المعيشة والعيش براحة وهدؤ وسعادة.

تطرح الرأسمالية اليوم أمام الانسان والمؤسسات والشركات أربعة أسئلة مهمة لا بد من محاولة الايجابة عنها لتحديد هوية النظام الرأسمالي المستقبلي.

أولا:  علاقة الانسان بالعمل من نواحي الشروط والأجور والحقوق كما الواجبات.  المطلوب احترام شروط العمل والأوقات كما أن تكون الأجور مناسبة لأوضاع البلد الاجتماعية.  في مطالب السترات الصفر كانت المشكلة المشتركة أن العامل الفرنسي غير قادر على العيش ضمن الأجر وخاصة ضمن الحد الأدنى للأجور البالغ 1200 يورو.  كي تبقى الانتاجية مقبولة بل ترتفع يجب على العامل أو الموظف أن يعيش بكرامة ويلبي حاجاته الشخصية والعائلية الأساسية، وهذا عالميا لم يعد شيئا بديهيا كما كان في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

ثانيا:  علاقة الانسان بالتكنولوجيا أي ليس للجميع القدرة على متابعة التطور التكنولوجي الحاصل كل يوم بل كل دقيقة.  متابعة التقدم التكنولوجي واعتماده ليس بالأمر اليسير لكل الموظفين والعمال والمنتجين عموما.  هل يملك كل انسان القدرة الاستيعابية للتكنولوجيا؟  هل يملك القدرة لقراءة وفهم وتطبيق المقالات أو الاكتشافات العلمية الأساسية.  هنالك شعور عند الانسان بالتقصير تجاه التقدم العلمي نتيجته الغضب والزعل وصولا ربما في بعض الأحيان الى اليأس.  لم تعد الحياة سهلة وواضحة وشفافة كما كانت في السابق.

ثالثا:  علاقة الانسان بالوقت، أي أنه ثمين ويجب الاستفادة منه مما يخلق شعورا دائما بالتقصير.  اضاعة الوقت خطاء بل ربما خطيئة ويجب الربح في السباق المهني المرتكز عليه.  اهمال الوقت مضر ولا بد من توزيعه بذكاء على كافة الاحتياجات بحيث لا يكون هنالك هدر.

رابعا:  علاقة الانسان بالطبيعة وهذا ما أهمله الانسان في العقود الطويلة الماضية ويحاول التعويض عن التقصير.  اهمال الطبيعة وما يتبعها من سخونة وتلوث أثر سلبا على صحة الانسان وانتاجيته ومن المستحيل الرجوع الى الوراء أي الى السلامة البيئية الحقيقية.  يحاول الانسان اليوم التنبه الى الأضرار لكن ما وقع قد وقع.  السباق على تحقيق المادة والغنى والثروة أضر بالبيئة.  الانسان فضل التنمية الاقتصادية على النوعية البيئية، ولا ننكر أن الاختيار صعب والطريق الوسطى غير واضحة حتى لأفضل المتخصصين في الشؤون العلمية والحياتية.

بعد كل الأزمات، هنالك وعي لضرورة التغيير ضمن الرأسمالية أي عبر التركيز أكثر على النشاطات الخيرية والاجتماعية حتى تتحسن شروط الحياة ونوعيتها.  هنالك ضرورة لتقوية النشاطات المشتركة تخفيفا لاستهلاك الطبيعة والمادة وتحسينا للعلاقات الانسانية.  هنالك ضرورة لتقوية المعرفة بحيث يقوى الشعور الانساني وتتحقق السلامة في العلاقات الاجتماعية.  الرأسمالية الانسانية الشفافة هي المطلوبة.

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment