الدكتورة سنية الحسيني*
إعلان بلفور، الذي جاء قبل أكثر من قرن من الزمان، أكبر جرائم هذ العصر، بل يعتبر دليل الإدانة فعلى الرغم من أن إعلان بلفور نفسه، والذي اعتمدته الحكومة البريطانية نهاية عام 1917، لا يترتب عليه أية إلتزامات أو تبعات قانونية، إلا أن مساعي وممارسات بريطانيا بعد ذلك لترسيخه قانونياً وتجسيده فعلياً على الارض يضع بريطانيا في دائرة الادانة.
عملت بريطانيا على ترسيخ إعلان بلفور قانونياً بفرض فحواه في قررات المؤتمرات وضمن بنود المعاهدات الدولية، كما سعت بعد ذلك لتجسيده على الارض بالقوة خلال عهد إحتلالها وإنتدابها على فلسطين.
فتحت للمهاجرين الغرباء اليهود أبواب الهجرة إلى فلسطين، ومكنتهم من الاقامة والإستيطان فيها، لتغير بذلك خريطة البلاد الديمغرافية، كما ساعدتهم بعد ذلك في إحكام سيطرتهم عليها بالقوة.
جاءت جميع تلك السياسات البريطانية المبيتة خلال عهد الاحتلال والانتداب البريطاني على فلسطين، وهو الأمر الذي يخالف بشكل فاضح حدود مسئوليات بريطانيا كدولة إحتلال أو إنتداب،
الذي لا يزال العالم حتى اليوم يقف شاهداً على فصول معاناته اليومية، سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، بفعل سياسات دولة الفصل العنصري، أو داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بفعل ممارسات دولة الاحتلال، إسرائيل.
ولم تتعد نسبة اليهود في فلسطين من مجمل عدد السكان عام 1838 الـ 2%.
الشعب الفلسطيني، والذي كان يمثل في إعلان بلفور الاغلبية العظمى بنسبة تعدت الـ 95%،
إعتبرت بريطانيا أن هجرة اليهود إلى أوروبا، بعد إضطهادهم في روسيا، يشكل تهديداً سياسياً وإجتماعياً مباشراً لها ولدول أوروبا أيضاً، فاصدرت بالفعل عدد من التشريعات التي تهدف لتقويض وحصر تلك الهجرات إليها، وذلك قبل إصدارها تصريح بلفور بسنوات.
لم يختلف مواقف دول أوروبا أيضاً عن موقف بريطانيا تجاه تهديد هجرات اليهود إليها. فاعتبرت روسيا تصريح بلفور حلاً مقبولاً للتخلص من عبء المهاجرين اليهود في القارة الاوروبية. وأيدت ألمانيا بشدة فحوى الاعلان، خصوصاً وأنها كانت قد تقدمت بطلب إلى الحكومة التركية لتمكين اليهود في فلسطين قبل صدور ذلك التصريح بعام واحد. وأيدت كل من فرنسا وإيطاليا التصريح بمجرد إعلانه من قبل بريطانيا. ووافقت الولايات المتحدة على فحوى الاعلان، حتى قبل صدوره، حيث إهتمت حكومة بريطانيا بالتقرب من الرئيس الامريكي (ويلسون)، والذي أحيط في حينه بعدد من القيادات الصهيونية المؤثرة، خصوصاً بعد التدخل الامريكي في الحرب إلى جانب الحلفاء.
ومن ناحية أخرى، رأت بريطانيا في زرع اليهود في فلسطين كموالين لها يعد أمراً مساعداً لتحقيق أطماعها في المنطقة، في ظل تنافس شرس بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى على تركة أنقاض الامبراطورية العثمانية. ويقدم موقف بريطانيا بتوقيعها على إتفاق سايكس بيكو مع فرنسا عام 1916، وسعيها من خلاله لتقسيم فلسطين وتغيير معالمها السياسية، دليلاً إضافياً على نواياها وتوجهات سياساتها تجاه فلسطين بعد ذلك.
أما اليهود فقد إعتبروا أن الوصول إلى إتفاق مع الحكومة البريطانية حول صيغة لإعلان بلفور، يحسم الجدل داخل الحركة الصهيونية حول الموقع الجغرافي لوطنهم المزعوم من ناحية، ويمكن اليهود من تأسيس وطن لهم في فلسطين بمساعدة بريطانيا، القوة العطمى في ذلك الوقت. فاعتبر (وايزمان) أن بريطانيا ستشجع الاستيطان اليهودي في فلسطين، بما يسمح بترحيل أكثر من مليون يهودي في غضون عقدين أو ثلاثة عقود على الأكثر.
فاعتبر (وايزمان) أن بريطانيا ستشجع الاستيطان اليهودي في فلسطين، بما يسمح بترحيل أكثر من مليون يهودي في غضون عقدين أو ثلاثة عقود على الأكثر.
وجعلت تصريح بلفور جوهر مادة صك الانتداب على فلسطين، الذي أقرته عصبة الامم عام 1922، وذلك لترسيخ فحوى إعلان بلفور قانونياً. وكانت الدولة العثمانية وصاحبة الولاية على فلسطين قد رفضت إستجداءات اليهود المتكررة بالسماح لهم بالهجرة إلى فلسطين، كما عارضت بعد ذلك إدراج إعلان بلفور في معاهدة سيفر أو معاهدة لوزان.
ولم تدخر بريطانيا جهداً لتضع إعلان بلفور موضع التنفيذ، ففتحت باب الهجرة إلى فلسطين على مصرعيه. فارتفعت نسبة عدد اليهود في فلسطين بشكل ملفت في ظل حكم الادارة البريطانية الاحتلالية والانتدابية، وما بين عامي 1918 و1922 ارتفعت نسبة اليهود من 5% إلى 10%، بينما وصلت إلى 35% نهاية عهد الانتداب عام 1948.
ويبدو الدور المركزي لعصبة الأمم في تنفيذ بريطانيا لجرائمها، باقرارها صك الانتداب البريطاني على فلسطين. فنقلت العصبة إعلان بلفور من مجرد رسالة أحادية الطرف ولا تحمل أية مكانة إعتبارية دولية إلى وثيقة دولية رسمية، كما أقرت العصبة إجراءت تنفيذ ذلك الاعلان. وكانت عصبة الأمم قد أنشأت في الأساس بناء على قرارات مؤتمر الصلح في باريس (فرساي) عام 1919، الذي إنعقد في أعقاب الحرب العالمية الاولى، بمبادرة وعضوية من الدول الأربع المنتصرة لتحقيق مصالحها، ودون مشاركة من معظم دول العالم.
يعتبر ميثاق عصبة الامم صيغة تعاقدية بين الدول الموقعة عليه فقط، كما تعتبر قراراتها ملزمة فقط لأعضائها. ولم تكن المانيا وروسيا والنمسا والمجر وبلغاريا وتركيا أعضاء في العصبة كما رفضت الولايات المتحدة الانضمام اليها، وإنسحبت في وقت لاحق إيطاليا واليابان من العصبة. إن ذلك الامر يستوجب إعادة البحث في مدى قانونية قرارات العصبة ومدى شرعية صك الانتداب البريطاني على فلسطين من الأساس، خصوصاً وأن معاهدتي فيينا لقانون المعاهدات تشترط رضى الأطراف ذات العلاقة، كما أن الامم المتحدة لم ترث إلتزامات عصبة الامم.
إن مؤامرة إختلاق اسرائيل منذ بداياتها حتى نهايتها جاء بالتتدليس والمؤامرات، واستغلال ضعف شعوب المنطقة وانعدام إرادتها في نهاية عهد الامبراطورية العثمانية ووقوع معظم بلدان الشرق الأوسط تحت أسر الاستعمار. فأصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارالتقسيم 181 عام 1947، خلال عهد الانتداب البريطاني على فلسطين. وأعلن اليهود دولتهم في العام التالي بموجب قرار التقسيم، وفي نفس اليوم الذي أنهت فيه بريطانيا إنتدابها على فلسطين. واعترفت الجمعية العامة أيضاً باسرائيل عام 1949 بموافقة نفس عدد الدول تقريباً التي أقرت قرار التقسيم، في ظل مؤسسة لم يتجاوز عدد أعضائها السبع وخمسين دولة، يمثل معظمهم دول الإستعمار، حيث لم تكن أي من دول العالم الثالث قد استقلت بعد.
وتعتمد إسرائيل لإثبات بنوتها وإرتباطها الواقعي والقانوني بفلسطين على إعلان بلفور وتبعاته، وهي جميعها وثائق مضللة وليس من الصعب إثبات عدم قانونيتها، وعلى قراري التقسيم والاعتراف بها واللذان صدرا عن الجمعية العامة في الامم المتحدة في عهد شكل معظم أعضائها دول أوروبا الاستعمارية، وكانت معظم باقي دول العالم تخضع تحت نير الاستعمار، كما أن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، فلم ينفذ قرار واحد صدر عنها من بين مئات القرارات التي اعتمدت تأييداً للحق الفلسطيني على سبيل المثال. وعلى الرغم من أن القرارات التي تصدر عن الجمعية العامة في عهدنا الحالي تأتي في ظل مشاركة جميع دول العالم الحر.
واليوم وبعد أكثر من قرن من الزمان وفِي ظل عالم حر تحرر جميع شعوبه إلا الشعب الفلسطيني، ألم يأتِ الاوان لاسترجاع الحق، ألم يحن الوقت لتساهم دول العالم الحر، خصوصاً تلك التي ساهمت في ولادة هذا الخلل وعلى رأسها بريطانيا، في حل القضية الفلسطينية العالقة، خصوصاً وأن الحق لا يموت، والشعب الفلسطيني سيبقى حياً شاهداً على هذا الحق ومحارباً من أجله.
ويبدو أن الادارة الامريكية ستكتفي بأن تفرض بشكل عملي وبالقوة لصفقتها ورغم أنف هذا العالم، لتصفية قضية عادلة بقيت عالقة في أروقة الامم المتحدة لأكثر من سبعة عقود. ولم تنجح هذه المؤسسة ولو لمرة واحدة في تطبيق قراراتها والاقتصاص من الإحتلال الاسرائيلي الذي أجرم بحق شعب باكمله بعد أن شرد نصفه وحكم على النصف الاخر بالعيش في وطنه أسيراً معذباً محروماً من العيش بحرية وكرامة على مدار كل تلك السنوات.
ورغم أن جميع الإدارات الأميركية السابقة انحازت تماماً لكيان الاحتلال، الا أن الإدارة الحالية اعتبرته مصلحة أميركية، فتطابقت توجهات وسياسات إدارة ترامب وبشكل علني ودون مواربة مع مواقف وسياسات حكومة الكيان الصهيوني اليمينية المتطرفة. فاعلن ترامب عن دعمه صراحة لسياسة الاستيطان في الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، في تحد لمواقف إدارات أمريكية سابقة، ومخالفة للاحكام والاعراف القانونية والدولية. كما أقدمت الادارة الامريكية الحالية قبل عدة أشهر على تنفيذ قرارها بنقل سفارتها إلى القدس، لتعترف بذلك بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني. وبادرت هذه الادارة بقطع المساعدات الامريكية عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة بعد قرار الكونغرس بذلك، ومحاولاتها لتصفيتها وتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين ككل، بالتشكيك بإعداد اللاجئين تارة، ومحاولة نسج المؤامرات لتوطينهم خارج حدود وطنهم تارة أخرى.
تتزامن وتنسجم تلك المواقف الامريكية بامتياز مع موقف الاحتلال، الذي لم يتردد في إقرار قانون عنصري أطلق عليه "قانون القومية للشعب اليهودي"، والذي ينفي علاقة الشعب الفلسطيني بوطنه فلسطين، ويلغي أية حقوق تترتب على ذلك، كحق العودة الذي يوثقه التاريخ وتؤكد عليه قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي. ويعتبر كذلك هذا القانون أن مدينة القدس المحتلة عام 1967 عاصمة موحدة للكيان الصهيوني. إن اقدام إسرائيل على إقرار قانون القومية يلغي عملياً إتفاق أوسلو الذي وقعه الكيان الصهيوني مع منظمة التحرير عام 1993، ويقوض حل الدولتين القائم على أساس قرار مجلس الأمن 242 وانسحاب الاحتلال من الاراضي التي إحتلها عام 1967. فاعتبر هذا القانون أن القدس العربية المحتلة جزءاً مما يعتبره الاحتلال القدس الموحدة، كما تعتبر أراض الضفة الغربية جزءاً مما يدعيه الكيان المغتصب أرض إسرائيل. وهو توجه احتلالي ليس بجديد تفسره الأرقام، فارتفع عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية والقدس الشرقية من 240 ألف إلى نحو 800 ألف مستوطن ما بين عامي 1990 و2016،
لم يعد خفياً أن الحل الذي ينشده الرئيس ترامب لحل القضية الفلسطينية هو تصفيتها وتمكين المحتل، وذلك من خلال فرض شروط صفقة العصر.
ولا تخرج المساعي الامريكية الرامية لتقديم حلول ومشاريع إنسانية لقطاع غزة، ومساعي إسرائيل لابرام هدنة مع حركة حماس في القطاع بوساطة مصرية، عن تلك الترتيبات لتهيئة الأجواء لفرض صفقة العصر على الفلسطينيين. فتعميق الانقسام وتوسع الفجوة بين الاشقاء يَصْب مباشرة في مصلحة الأعداء، فبدل أن يقف الفلسطينيون جميعاً صفاً واحداً لمواجه أخطر مؤامرة تشهدها القضية الفلسطينية، يقف الجميع الفلسطيني عاجزاً ضعيفاً كما لم يكن في يوم من الأيام.
إن الولايات المتحدة لم تكن يوماً وسيطاً نزيهاً وبات جيش الاحتلال الاسرائيلي يعتبر أقوى جيوش منطقة الشرق الأوسط دون منزع، بفعل التزام الادارة الامريكية بالمحافظة على التفوق النوعي والكمي لإسرائيل على جميع دول المنطقة من الناحية العسكرية، ذلك الالتزام الذي تترجمه أرقام المساعدات العسكرية الامريكية للمؤسسة العسكرية للاحتلال والتي شكلت مصدر التمويل الرئيس لها وعلى مدار أكثر من 45 عاماً. ويحصل جيش الاحتلال على مساعدة أمريكية سنوية تقدر بحوالي 15 مليار دولار، إلا أن المعونة العسكرية الامريكية للاحتلال للعقد القادم تعتبر الأكثر سخاءً، وقد تم إقرارها في عهد إدارة الرئيس أوباما. و
وتعتبر الولايات المتحدة الْيَوْمَ وبعد الموقف العدائي المعلن من قبل الرئيس ترامب وإدارته شريكاً رسمياً للاحتلال وعدو للفلسطينيين. وفي ظل عدم قدرة حكومة الكيان المحتل الْيَوْمَ إخفاء وجهها الحقيقي المعادي للسلام ولأي حقوق للشعب الفلسطيني.
*كاتبة وأكاديمية من فلسطين
Comments