bah رسالة إلى المتخرّجين - بيروت تايمز جريدة يومية لبنانية وعربية تصدر في اميركا Beirut Times Daily Lebanese newspaper

رسالة إلى المتخرّجين

06/27/2019 - 19:55 PM

Atlas New

 


بقلم الدكتور فيليب سالم

في ظلام هذا الليل الذي يُلقي بثقله على هذا الوطن الصغير وعلى هذا الشرق كله، يحتفل لبنان بجامعاته تخرج دفعة تلو الدفعة من طلابها. وكيف لا تقف بدهشة واحترام أمام هذا اللبنان العنيد. انهم يقتلونه كل يوم، ولكنه ينبعث ويحيا كل يوم. وبينما يقبض العنف على الأرض، ويتنقل من مكان الى مكان، تنبت الجامعات في كل مكان. وبينما يذهب المئات من الشباب ليتقاتلوا، يذهب المئات غيرهم إلى الجامعات ليتعلموا. انه لبنان. انها الاسطورة. إنها رسالته: صنع العلم والمعرفة والإبحار بهما الى جميع بقاع الأرض. هكذا كان في عمق التاريخ، وهكذا سيبقى.

أيها المتخرجون، تتصارع على هذه الأرض اليوم ثقافتان: ثقافة المعرفة وأنتم من نتاجها، وثقافة التطرف الديني والايديولوجي. فبينما يكبل التطرف الديني الانسان بحدود مصطنعة بينه وبين أخيه الانسان؛ تأتي المعرفة وتمحو كل هذه الحدود. ان الطائفية تفرق أما المعرفة فتجمع. إن الطائفية تنحدر بكم الى الأسفل أما المعرفة فترتفع بكم الى الأعلى. فما من قوة تحرركم من قشوركم كالمعرفة. وأقول لكم إنه كلما غصتم عمقاً في المعرفة، اقتربتم من الله اقتربتم بعضكم من البعض. لذا لن يقوم لبناننا الذي نريده الا اذا حررناه من سلاسل الطائفية. من هنا قلنا ونكرر القول ليس فقط بفصل الدين عن الدولة، بل أيضاً بفصل الدين عن التعليم والتربية.

نظرة واحدة الى هذا المشرق العربي فماذا نرى؟ نرى صحارى من الفكر المجمد وأنظمة سياسية لا تحترم عظمة الانسان الفرد وحريته؛ ونرى "ثورات" من التطرف الديني والعنف التي تكبل العقل وتدوس الانسان وتعتدي على الله. غداً أيها الخريجون يجب ان تتمردوا على هذا الواقع وتعملوا على تغييره.

من أربع وخمسين سنة تخرجت من كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت. من يومها الى يومنا هذا كانت رحلة طويلة امتزج فيها الألم مع الفرح وامتزج فيها النجاح مع الفشل. ولست أنا هنا اليوم لأسدي النصح إليكم، بل جئت لأعترف لكم بما تعلمته، لعل في ذلك خيرا لكم.

قد تعلمت ان الابداع في العمل ليس ممكناً ان لم تحبّ عملك. فالحب هو القوة التي تحول العمل من شيء تقوم به، ويبقى خارجك، الى شيء تقوم به ويصبح أنت. وهو القوة التي تحرر العمل من التعب والضجر وتملأه فرحاً وجمالاً. جاء في كتاب "النبي" لجبران: "إن العمل هو الحب، تجسد فتراءى". وأنا أقول لكم إن الحب ليس ضروريا فقط للنجاح في العمل، بل هو أيضاً ضروري للنجاح في الحياة. فاذا أردت ان تملأ حياتك معنى، فاملأها بالحب. وأقول لكم أيضاً إنه ليس مهماً نوع العمل الذي ستقومون به بقدر ما هو أهم وهو ان تملأوا هذا العمل بالحب و"تسكبوا" فيه من أنفسكم.

لم تكن الطريق التي مشيتها معبدّة. كانت فيها حفر كبيرة وكثيرة، وهكذا ستكون الطريق أمامكم. ولكنني تعلمّت أن الشجاعة ضرورية للوصول الى نهاية الطريق. فاذا وقعت يوماً في حفرة، وتملكك الخوف وعدت القهقرى، فلن تصل يوماً الى أهدافك. من يخف يقع. ومن يجرؤ يتقدم.

وتعلمت أيضاً ان النجاح يحتاج الى وقت طويل. فالطريق الى القمة تحتاج الى جهد كبير وصبر أكبر. وتعلمت أن الفشل هو مرحلة يجب أن تمر بها للنفاذ الى النجاح. اذ أنكم لن تتمكنوا من الوصول الى النجاح دون المرور بالفشل. من يخف الفشل لا يمكنه صنع النجاح. ولربما كان الفشل أعظم استاذ عرفته. لقد علمني التواضع. والفشل ليس خطيئة، بل الخطيئة ان لا تتعلم منه. والخطيئة العظمى هي أن تلوم الآخرين في فشلك. ثمة من قال: "ان المرء يفشل مرارًا ولكنه لا يصبح فاشلاً إلّا عندما يبدأ بلوم الآخرين."

وتعلمت ان المال والنفوذ والشهرة، تشكل دون أي شك قوة كبيرة أما القوة الكبرى فهي ان تمتلك نفسك وتحترمها. كثيرون تمكنوا من تسلق القمة، الا أنهم سرعان ما تدحرجوا الى قعر الهاوية. تدحرجوا لأنهم لم يتمكنوا من ترويض النجاح فخسروا أنفسهم وضاعوا. ويمكنكم ترويض النجاح عندما تشاركون الآخرين فيه. ويكون النجاح قوة لكم عندما تجعلونه قوة لغيركم. وتذكروا دائما أن هذا الغير ليس إلا واحداً منكم.

لقد جئت لأدعوكم إلى ان تحلموا أحلاماً كبيرة. أحلاماً أكبر من الوصول الى المال والشهرة والسلطة. أحلاماً أكبر منكم اذ انكم تجهلون اليوم ما أنتم قادرون على صنعه غداً. هناك سر يعرفه الله وحده جيداً، وهو انه خلق الانسان بعقل لا حدود له ونفس لا حدود لها وجسد لا حدود لوظائفه. لقد تعلمت من تجربتي في الطب انه ليس هناك شيء مستحيل وليس هناك نفق بدون ضوء في آخره. ما قد تعتقده اليوم غير ممكن قد يصبح ممكناً غداً. ان عملية الانتقال من غير الممكن الى الممكن تتطلب الكثير من الشجاعة والمثابرة والتدريب. هذا هو السر وراء المعجزة. أما السر الآخر فهو ان كل واحد منا قادر على صنع معجزة ما.

وتعلمت ان السعادة هي عكس ما كنت اعتقد عندما كنت مثلكم. يومها كنت أعتقد ان السعادة هي النجاح. ولكنني عرفت الكثيرين من الذين تمكنوا من الوصول الى القمة في عملهم ولكنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى السعادة. فالسعادة في رأيي ليست "سُلمّاً" خارجياً تصعده درجة درجة وتزداد قوة وشأناً بل هي "سلم" داخلي في أعماقك، لا يراه أحد غيرك. في داخلك تمتزج الحقيقة مع الصورة، وعندما يتطابقان، عند ذاك تصل الى أعلى قمة. تصل الى السلام والاحترام في داخلك. تصل الى السلام بينك وبين نفسك. وتعرف أنك وصلت عندما تحترم الشخص الذي تراه في المرآة صباح كل يوم.

هذا بعض مما تعلمته ايها المتخرجون، أضعه بين ايديكم لعلّه يكون ذا فائدة لكم في الطريق أمامكم. ولا أخفي عنكم انني خائف عليكم، وخائف على مستقبل الانسان، اذ أن الانسانية في الأنسان تتقهقر أمام التقدم المهيب والسريع في التكنولوجيا. وأخاف أن يأتي يوم يُعتبر فيه كل ما ليس بالإمكان ادخاله في الكومبيوتر غير موجود بالفعل. والحقيقة هي ان الاشياء الكبيرة في الانسان هي أشياء لا يفهمها الكومبيوتر. فالحب، والمحبة، والحنان والرفق والسماح، والنخوة، والشهامة، والكرامة، والنبل... كلها أشياء تحدد ماهية الانسان ولكنها تبقى خارج عالم الكومبيوتر. ويهزأون منك في الغرب عندما تتكلم عن النبل. وأرجو ان لا يأتي يوم يفتش فيه أولادنا عن كلمة النبل في القاموس ولا يجدونها. أنا مثلكم ايها المتخرجون، ابن العلوم والتكنولوجيا، ولكنني خائف من أن يصبح الانسان يوماً "بلا قلب". عند ذاك يزول أي معنى للحياة، ويصبح الحصول على السعادة أمراً مستحيلاً.

وأودّ ان أذكركم بشيء يعني لي الكثير، وهو الولاء. الولاء لأهلكم. الولاء لأساتذتكم. الولاء للذين ساعدوكم. والولاء للوطن. وأرجو أن تغفروا لنا لأن جيلنا لم يبنِ وطناً يليق بكم، ونأمل ان يتمكن جيلكم من بناء لبنان جديد بحجم عظمة تاريخه، وعظمة حضوره في العالم

أيها المتخرجون، اذهبوا واعملوا وازرعوا في الأرض، وطاردوا احلامكم، ولكن إياكم ان تنسوا يوماً من أنتم ومن أين أتيتم، ومن هم أهلكم، وأي ارض في الأرض هي أرضكم.

غداً تبدأ مرحلة جديدة من حياتكم وستنشغلون  في إعمالكم ولكن ضعوا جانباً كل يوم دقائق معدودة وارفعوا الصلاة الى الله واشكروه على كل ما أعطاكم. ومن أجل لبنان اطلبوا منه أن "يتطلع من السماء وينظر ويتعهد هذه الكرمة التي يداه غرستها، ويصلحها". أما الأرض فهي تناديكم وتقول لكم "أثبتوا في محبتي كما ثبت انا في محبتكم".

أيها المتخرجون، لكن سلام الله عليكم، ولتكن صلوات أهلكم معكم.

 

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment