بقلم: المحامي عمر زين*
قالها الحسين في وجه سلطة غاصبة غاشمة حملت الناس على مبايعة يزيد قسراً وقهراً، وقد قال الحسين مباشرة ليزيد "ان مثلي لا يبايع مثلك".
ولا بد من الاشارة الى ان الجهل بوقائع ودوافع الثورة الحسينية هو ما يدفع ببعض من نشأوا على محاباة الملوك والامراء والرؤساء الى الزعم بأن "الثورة الحسينية هي تعبير عن حالة شيعية أدمنت الاحزان والنحيب وانها مآتم للبكاء والتفجع بغير طائل".
الواقعة التاريخية اذاً ابقت للدين جذوره امام جبروت السلطة الضالة، واحابيل البدع والافكار المعادية للاسلام.
اذاً هي قضية الاصلاح ضد الفساد، وضد الظلم، وضد تشويه الاسلام، وبهذا الاعتبار والمعنى لا تعتبر كربلاء خاصة بمذهب معين، لأن النهضة الحسينية انطلقت في مصر ما قبل المذاهب، فهي قضية شديدة الاتصال بروح القرآن والسنة الطاهرة في مقابل تفريغ الدين من مضمونه الروحي والانساني والاخلاقي.
وهنا لا بد من الاشارة لقول الامام الشافعي رضوان الله عليه، وهو احد عظماء اهل السنة والجماعة،
ذبيحُ ، بــــــــــلا جرم كأنّ قميصَــــــــــه صبيغٌ بماء الارجوان خضيبُ
تـــــزلزلــــــــت الــــــدنــــــيا لآل محمــــــــد وكادت لهم صمّ الجبال تَذوبُ
يُصلّى على المبعوث من آل هاشمٍ ويُغـــــزى بنــــــوه إنَّ ذا لــعجيبُ
لئــــن كــــأن ذنبـــي حـــبّ آلِ محمــــدٍ فذلك ذنبٌ لست عنـــه أتــــوبُ
والجدير بالذكر فإن ثورة الحسين في كربلاء حصنت المسلمين ضد الردة ،والفسق، والفجور، الذي يجتاح الامم والحضارات مع تعاقب الازمان، وهي التي آخذت موقعها في تاريخ البشرية، كمدرسة للنضال والقتال للدفاع عن المبادئ والقواعد الاخلاقية، وان كان الثمن دماءً وارواحاً.
وجاء في كتاب للعلامة الشيخ عبدالله العلايلي:
"سمو المعنى في سمو الذات
او
اشعة من حياة الحسين"
بأنه: "وازن الحسين (ع) بين الرغبة في البقاء، وبين الواجب، فرأى طريق الواجب افسح الطريقين وارضاهما عند الله والناس...
وأشرف الى الأفق، فرأى العهد الزاهر يأخذ بالتلاشي والانحدار شيئاً بعد شيء ليفسح المجال لدنيا جديدة وحياة جديدة، ولم يبق سواه رمزاً للماضي المثالي الاقدس فزاده استعاراً...
هم قلّة المؤمنون بقضيته، ولكن القلة المؤمنة التي تجاهد لله وفي سبيله كثرة، وصوت الحق في معترك الباطل ارفع الصوتين...
اطل من علياء مكة التي هي رمز السماء في الارض وينبوع المُثُل في الاسلام، الى الحياة الجديدة التي تجيش فيها الشهوات، في زوبعة يدير رحاها داعية في الجانب الآخر الذي لا تطلع فيه الشمس، فرأى اكفهراراً ورأى تجهّماً استفزّاه...
مشى الى الفوز او الى الموت، والموت نصر سلبي في الجهاد، فمن جاهد ومات فقد طرح اهاب الارض ليلبس حلة السماء حلة الخلود الضافية...
سار بقلته المؤمنة، وثبت في معركة الحق والباطل. وجعل بين ناظريه برهان ربه: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" (القرة 193:2)
والفتنة في الآية ليست بمعنى الاختلاف والتنازع بل بمعنى شيوع الفساد والفسوق، فخروج الحسين (ع) ليس فتنة- كما اتهموا- بل لمكافحة الفتنة، فأية محاولة وثورة على الفساد في سبيل ان يكون الدين كله لله، ونحن مأمورون بها فالحسين بخروجه لم يجاوز برهان ربه...
فالحسين (ع) لم يخرج على امام وانما خرج على عادٍ فرض نفسه فرضاً او فرضه ابوه بدون ارعواء، وهذا مأخذ نيابي وغلطةٌ سياسيةٌ من معاوية تصدق رأينا السابق فيه، وانه ضيِّقُ النظر. فنظام ولاية العهد جر على الدولة الويلات من وجهٍ، واعد المجتمع للثورة مرة اخرى اعداداً قوياً حينما عهد الى يزيد.
والوثيقة تعرفنا قوة الرأي العام في ذلك العهد، رغم الضغط وتكميم الافواه، وتثبت لنا ايضاً وجود اصول انتخابية مقررة.
فخروج الحسين (ع) كان واجباً دينياً واجتماعياً وبرلمانياً – اذا صحّ هذا التعبير – وانه كان على معاوية – وهو يعلم ان السلطتين الدينية والزمنية، اندمجتا في الاسلام، وللأولى شروط تتعلق بالسلوك – ان يفصل ما بين السلطتين حتى لا يعرّض المجتمع لكوارث لا تحصى، بنسبة تعريض بيته لها. وهذا قِصَرُ نَظَرٍ بلا رئيبٍ، وغلطة سياسية حفرتِ القبر مع المولود".
ان شعار " كل ارض كربلاء وكل يوم عاشوراء" هو رسالة الثورة الحسينية الى العالم حتى قيام الساعة!! رسالة واضحة تقول:
"على الانسان الحر ان ينتفض ويخرج ثائراً في كل عصر وفي كل مِصر، حتى لا يفقد انسانيته وحقوقه ودوره كخليفة لله على الارض".
وبذلك يكون الحسين قد خاطب امة جده اولاً. فهو لم يخاطب فئة او مجموعة قبل نشأتها – يعني لم يخاطب الشيعة ولا السنة لانه في عصره لم تكن هذه المذاهب قد نشأت بعد.
فالحسين خاطب المسلمين اولاً امة جده ثم وسع دائرة خطابه ليشمل البشرية جمعاء انسجاماً مع نهج ودعوة جده المصطفى الذي لم يبعثه الله حصراً لأمة من الامم، بل ارسله رحمة للعالمين!!
وكتب العقاد احد كبار الادباء المصريين عن حركة خروج الحسين من مكة الى العراق في موسوعته الاسلامية فقال:
"خروج الحسين من مكة الى العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية لانها حركة من اندر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية او الدعوة السياسية... لا تتكرر كل يوم ولا يقوم بها كل رجل ولا يأتي الصواب فيها – ان اصابت – من نحو واحد ينحصر القول فيه. ولا يأتي الخطأ فيها – ان اخطأت – من سبب واحد يمتنع الاختلاف عليه. وقد يكون العرف فيها بين اصوب الصواب واخطأ الخطأ فرقاً صغيراً من فعل المصادفة والتوفيق. فهو خليق ان يذهب الى النقيضين.
هي حركة لا يأتي بها الا رجال خلقوا لأمثالها فلا تخطر لغيرهم على بال. لانها تعلو على حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب والدرب المطروق..
هي حركة فذة يقدم عليها رجال أفذاذ. من اللغو ان ندينهم بما يعمله رجال من غير هذا المعدن وعلى غير هذه الوتيرة... لانهم يحسون ويفهمون ويطلبون غير الذي يحسه ويفهمه ويطلبه اولئك الرجال...
"ان القول بصواب الحسين معناه القول ببطلان تلك الدولة والتماس العذر له معناه إلقاء الذنب عليها. وليس يخاف على احد كيف يُنسى الحياء وتبتذل القرائح احياناص في تنزيه السلطان القائم وتأثيم السلطان الذاهب. فليس الحكم على صواب الحسين او على خطئه إذن بالأمر الذي يرجع فيه الى اولئك الصنائع المتزلفين الذين يرهبون سيف الدولة القائمة ويغنمون من عطائها، ولا لصنائع مثلهم يرهبون بعد ذلك سيفاً غير ذلك السيف ويغنمون من عطاء غير ذلك العطاء..
انما الحكم في صواب الحسين وخطئه لأمرين لا يختلفان باختلاف الزمان واصحاب السلطان، وهما البواعث النفسية التي تدور على طبيعة الانسان الباقية، والنتائج المقررة التي مثلت للعيان باتفاق الاقوال.
وبكل من هذين المقياسين القويين نفيس حركة الحسين في خروجه على يزيد بن معاوية، فنقول انه قد أصاب..
أصاب اذا نظرنا الى بواعثه النفسية التي تهيمن عليه ولا يتخيل العقل ان تهيمن عليه بواعث غيرها...
وأصاب إذا نظرنا الى نتائج الحركة كلها نظرة واسعة، لا يستطيع ان يجادل فيها من يأخذ الامور بسنة الواقع والمصلحة او من يأخذ الامور بسنة النجدة والمروءة....
فما هي البواعث النفسية التي قامت بنفس الحسين يوم دعي في المدينة بعد موت معاوية لمبايعة ابنه يزيد؟
هي بواعث تدعوه كلها ان يفعل ما فعل ولا تدعو مثله الى صنيع غير ذلك الصنيع. وخير لبني الانسان ألف مرة ان يكون فيهم خلق كخلق الحسين الذي أغضب يزيد بن معاوية، من ان يكون جميع بني الانسان على ذلك الخلق الذي يرضى به يزيد..
فأول ما ينبغي ان نذكره لفهم البواعث التي خامرت نفس الحسين في تلك المحنة الاليمة، ان بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرة ولا بالبيعة التي يضمن لها الدوام في تقدير صحيح...
فهي بيعة نشأت في مهد الدس والتمليق، ولم يجسر معاوية عليها حتى شجعه عليها من له مصلحة ملحة في ذلك التشجيع.."
واعجب شيء ان يطلب الى حسين بن علي ان يبايع متل هذا الرجل ويزكيه امام المسلمين، ويشهد له عندهم انه نعم الخليفة المأمول صاحب الحق في الخلافة وصاحب القدرة عليها.. ولا مناص للحسين من خصلتين: هذه، او الخروج!.. لانهم لن يتركوه بمعزل عن الامر لا له ولا عليه..
ان بعض المؤرخين من المستشرقين وضعاف الفهم من الشرقيين ينسون هذه الحقيقة ولا يولونها نصيبها من الرجحان في كف الميزان.
وكان خليقاً بهؤلاء ان يذكروا ان مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسين لم تكن مسألة مزاج او مساومة، وانه كان رجلاً يؤمن اقوى الايمان بأحكام الاسلام ويعتقد اشد الاعتقاد ان تعطيل حدود الدين هو اكبر بلاء يحيق به وبأهله وبالامة العربية قاطبة في حاضرها ومصيرها. لانه مسلم ولانه سبط محمد... فمن كان اسلامه هداية نفس فالاسلام عند الحسين هداية نفس وشرف بيت..
وجاء في حديث للمفكر القانوني والسياسي الدكتور عبد الحسين شعبان في محاضرة عنوانها "الاصلاح العاشورائي في خدمة الانسان":
"لعل هدف الاديان جميعها والاسلام تحديداً والامام الحسين بشكل خاص هو الانسان لانه القيمة العليا والحقيقة الاهم التي استخلفها الله على الارض، وهو ما يعطى البشر المؤمنين الحقيقيين الكشف والفيض والالهام، فهناك علاقة للخير بالايمان، فهل يمكن ان يكون السفاح والجلاد شجاعاً ان ان الشجاعة صفة لصيقة بالخير؟
الحسين لا يخص الشيعة وحدهم ولا يعني المسلمين فقط ولا يقتصر على المؤمنين، وانما هو قيمة انسانية لبني البشر، للناس جميعاً، لكل من يناضل ضد الظلم ومن اجل إحقاق الحق، وفلسفته التي تقوم على مقاومة الظلم تعني جميع المظلومين وفي جميع العصور، فهناك علاقة بين الظاهر والباطن والعلّة والمعلول والسبب والنتيجة والماضي والحاضر، وكل فعل تضحية ومقاومة ضد الظلم انما هي استلهام لسيرة معطرة مصحوبة بالفداء النبيل، تلك التي اقدم عليها الامام الحسين براحة ضمير ووعي وطهارة روحية".
وبالرغم من مرور مئات السنين على هذا الحدث الا انه وبما انطوى عليه من شعارات انسانية ما يزال مفتوحاً على جميع القضايا العادلة في هذا العالم وفي مقدمها قضيتنا الكبرى المركزية فلسطين.
وهنا لا بد من التأكيد ان رسالة الامام الحسين الى العالم هي رسالة من اجل ان يكون الدين من اجل الانسان، وهي رسالة من اجل ان يكون الدين التزاماً بالحق الذي جعله الامام الحسين العنوان الابرز لثورته يوم قال: "الا ترون الى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه".
فعلينا جميعاً ان نعمل لتوحيد كلمتنا وتوحيد صفوفنا وتوحيد توجهاتنا الى فلسطين والاقصى وكنيسة القيامة لتحريرهم من الصهاينة اليوم وقبل الغد، كفانا تعصباً ومذهبية وطائفية، كفانا جهلاً وفقراً وفساداً.
هذه هي طريق الانتصار عدتها تعميم ثقافة المقاومة، وتعزيز الوحدة الوطنية والقومية.
* القيت في الساحة (بيروت – لبنان) 15/10/2019
Comments