شهد العراق ما بعد 2003 تظاهرات سنوية عديدة شملت كافة محافظات ومدن العراق . ويبرز عامل ثابت هو الرفض الجماهيري للنظام السياسي ، وادائه المضطرب ، ولاتزال الشوارع العراقية مخضبة بالدماء ومتخمة بالمتظاهرين ، وبالرغم من أساليب القمع الصادم الذي استخدمتها المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية ضد المتظاهرين، الا انها لاتزال تحافظ على سلميتها ، ونستعرض الاحداث والتجاذبات الدولية والإقليمية ومناورات الطبقة السياسية والموقف الدولي والإقليمي والعربي :
الحراك الشعبي
تشير ديناميات الحراك الشعبي الى ملحمة وطنية كبرى ، وتماسك مجتمعي طوعي، وتفاعل شعبي جبار، لم يستطيع ان يحققه النظام السياسي طيلة 17 عام ، وقد حول الشارع تلك الديناميات الى أفعال واقعية ، حققت دافعية وطنية ، واشاعت الصحوة والوعي المجتمعي ، نحو أهمية الوطن والمواطنة ، والحقوق والمسائلة ، وطرح الخيارات السياسية ، والاليات التابعة لها ، فضلا عن الإجراءات المرافقة ، وسياق المتابعة والحوكمة ما بعد التنفيذ ، حسب ما طرحه المتظاهرون في مواقع التظاهر المختلفة .
وسجل الشارع ظاهرة القيادة الذاتية المتكاملة ، وحضور مميز لكافة شرائح المجتمع العراقي ، وفئاته العمرية ، وتنوع الحضور في مواقع وأماكن ذات دلالات تاريخية وطنية ، تحاكي تاريخ العراق ، وقد حافظت التظاهرات على سلميتها بالرغم من سقوط مئات الشهداء ، والاف الجرحى ، والمعتقلين على اثر اتباع سياق فض التظاهرات بالقوة من قبل الحكومة ، وبرز عامل الاستجابة الطوعية ، الشعبية لإدامة التظاهرات ، وقد سجلت المؤشرات اختراق التظاهرات من قبل التيارات السياسية ورموزها الدينية ، وشهد الشارع العراقي تحول استراتيجي بعد التظاهرات الصدرية ، التي طالبت بخروج القوات الامريكية ، اذا انسحب عناصر التيار الصدري بأمر من مرجعهم ، لأضعاف التظاهرات ، وجوبه هذا الفعل بارتداد شعبي وطلابي كبير زاد من قوة التظاهرات ، ومنحها صفة الاستقلال والقيادة في ظل الازمة .
النظام السياسي
استمر النظام السياسي المضطرب باستخدام الأساليب التقليدية كالمماطلة والتسويف والترهيب ، واستخدام القوة ضد المتظاهرين كخيار أساسي حتى لحظة كتابة التقرير، ولم تتمكن الطبقة السياسية من فهم التحولات السياسية ، ومعرفة اداوتها ومفاعيلها ، واهمية مطالب الشارع العراقي ، وتستمر الازمة في ظل قيود السياسة الإقليمية المهيمنة على القرار السياسي العراقي وغياب القرار الصائب، وهيمنة الكيان الموازي على المؤسسات الحكومية ، لاسيما بعد ضعف واختلال قدرة الداعم الإقليمي على اثر التظاهرات في العراق ولبنان .
وكان العراق قد شهد حزمة احداث ، لا تتسق بالمعايير الدبلوماسية والسياسية ، وكان اكثرها خطورة اقتحام حرم السفارة الامريكية في بغداد ، وضرب القوات الامريكية بالصواريخ البالستية الإيرانية ، وتحويل العراق الى ساحة حرب بالوكالة ، وبالرغم من أهمية التوازن السياسي للعراق، الا ان الطبقة السياسية انحرفت بالغالب نحو الجانب الإيراني ، وكان رموز الأحزاب الإسلامية قد طالبو من ايران بخروج القوات الامريكية من العراق ، وبالفعل جرى حشد اتباعهم في تظاهرة الجمعة التي انتهت خلال ساعات بدون حوادث .
الموقف الدولي والإقليمي
يشير الموقف السياسي الدولي الى تجاهل إرادة التظاهرات العراقية ، ولم تتخذ الدول الراعية للديمقراطية والقانون الدولي في مجلس الامن أي موقف يؤمن حقوق وسلامة المتظاهرين، بعد مايقارب أربعة اشهر من التظاهرات ، وارتفاع حصيلة الشهداء والجرحى الى ارقام تنذر بالخطر ، والخشية من تطور الموقف الى صدام مسلح ، ولم يكن حال البعثة الأممية في العراق افضل ، بل اكتفت بالتغريدات والبيانات واللقاءات مع مسؤولي الحكومة ، وكان الموقف الأمريكي ضبابي ويتسم بالتصريحات دون الأفعال ، اما الموقف الإقليمي هو الاخر كان مساند للحكومة ، وأيضا الموقف العربي الذي يلتزم الصمت ، ولم تصدر جامعة الدول العربية أي موقف او تصريح يدعم حقوق المتظاهرين ، ويطالب بإيقاف عمليات القمع والقتل والاختطاف والتدخل الخارجي
تحليل
من خلال استعراض المعطيات أعلاه نتوصل الى الاستنتاجات التالية :
- يستمر الخلاف حول تولي رئاسة الحكومة ، حيث ان الأحزاب ترسل مرشحيها ، بينما المتظاهرون يبحثون عن مرشح مستقل لمرحلة انتقالية ، مما يشير الى خلاف جوهري بين الطرفين لا يصل الى اتفاق ، مما يرجح ارتفاع ضغط الشارع وتنوع أساليب التظاهرات لتحقيق أهدافها
- لم تنجح السلطة واساليبها في تقويض التظاهرات مما يشير الى إرادة صلبة لدى المتظاهرين واستمرار التظاهرات مهما بلغت التضحيات .
- فشل النظام السياسي في ترجمة إرادة الشارع ، واستمر في ذات السياق السياسي لتقويض التظاهرات ، وقد كشفت المواقف حجم الخلاف بين الشارع والنظام السياسي ، اذ لا يرجح ان يتم التقارب في الوقت الحاضر بين الطرفين في ظل تعنت احازب السلطة وتمسكها بمواقفها .
- تشير الارتدادات الشعبية الى زخم جماهيري كبير داعم للمطالب الشعبية ، وقد افرز المواقف قيادات للحراك البعض منها ظاهر والأخر غير ظاهر ، مما يشير الى تطور الحراك الى مرحلة اكثر نضوجا، وقد تتحول الى مسارات أخرى غير متوقعة .
- من الحقائق السياسية ان المواقف مرتبطة بالمصالح ، مما يشير الى ضبابية مواقف الاتحاد الأوربي وروسيا والصين والولايات المتحدة ، ولايوجد حاليا مؤشرات تدلل الى تغير مواقف هذه الدول حتى الان، مما يصعد الازمة لدى الطرفين ، اذ تعتقد الحكومة ان ما تفعله من إجراءات ضد المتظاهرين يحضى بمقبولية دولية ، وترى التظاهرات ان المجتمع الدولي لا يساند إرادة الشعب العراقي .
- يشير موقف دول الإقليم تركيا وايران الى دعم الحكومة العراقية ، وعدم المبالاة بالتظاهرات الشعبية ، بل ويتصور المتظاهرون انهم ضد إرادة الشارع العراقي، الذي رفض النفوذ الإيراني والاجنبي
- تبقى كافة الاحتمالات مفتوحة لتطور الموقف لاسيما إصرار الحكومة واحزب السلطة على استخدام القوة والمضي برهانات يصعب الفوز بها ، اذ ايقن الشارع العراقي ان الدول مع مصالحها وليست مع المطالب الشعبية المشروعة ، ومن المحتمل ان يطور الحراك اساليبه لتحقيق مطالبه .
المصدر : صقر للدراسات
Comments