بيروت - بيروت تايمز - تحقيق وحوار منى ابراهيم
تستضيف بيروت تايمز اليوم الكاتب والمفكر السياسي الأستاذ ناجي علي أمهز، في لقاء خاص يفتح نوافذ على مسيرته الفكرية والإعلامية، ويكشف عن ملامح شخصيته التي جمعت بين الجرأة في الطرح والعمق في التحليل.
عرفه القرّاء بأسلوبه الصريح، وكتاباته التي تلامس الواقع دون مجاملة، حيث شكّل حضوره في المشهد الإعلامي اللبناني والعربي علامة فارقة في مقاربة القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة.
في هذا الحوار، نستعرض محطات بارزة من تجربته، بدءًا من انخراطه المبكر في العمل الثقافي والسياسي، مرورًا بمواقفه الجريئة في الدفاع عن قضايا الوطن، وصولًا إلى رؤيته للملفات اللبنانية الراهنة، من الإصلاح السياسي إلى العلاقات الإقليمية والدولية.
كما نتوقف عند آرائه في دور الإعلام في صناعة الوعي، وفي مسؤولية الكلمة في زمن التحولات الكبرى، حيث يؤمن الأستاذ أمهز بأن الإعلام ليس مجرد وسيلة، بل أداة مقاومة فكرية، ومنبر للحق، ومرآة لوجدان الشعوب. ويأتي هذا اللقاء في لحظة دقيقة تمر بها المنطقة، ويشكّل مساهمة نوعية في إثراء النقاش العام، من خلال صوت يحمل تجربة، ورؤية، وصدقًا في التعبير.
وإلى تفاصيل الحوار :
■ ما هي المعلومات الشخصية التي تود مشاركتها مع قرّاء بيروت تايمز؟
* بدايةً، كل الشكر على اهتمامكم بما أكتبه وأنشره، لا سيما أنني أنشد من وراء كتاباتي إعادة الكلمة اللبنانية التي لطالما كانت فاعلة ومؤثرة في الوطن العربي، بل في العالم أجمع، عندما كان لبنان الرئة الوحيدة التي يتنفس منها الأحرار الناطقون والكاتبون بالعربية.
لقد انتميت إلى التيار العوني مع بداياته، قبيل نهاية عام 1988، وأصبحت من المقربين من قياداته بفضل مهارتي في الكتابة والسرد الدقيق. كنت أحضر بعض الاجتماعات وأدوّن الملاحظات، إضافة إلى مشاركتي في تخطيط الكثير من اليافطات التي كانت بمثابة لوحات إعلانية في تلك الفترة، حيث يُخطّ على القماش. وهكذا انتشر اسمي وذاع صيتي بفضل خطي الجميل وقدرتي على اختيار العبارات الثورية أو تلخيص فكرة في جملة.
غادرت التيار الوطني الحر عام 2009. كما أنني اعتقلت من قبل السوريين منتصف التسعينيات، وقد سبق أن نشرت قصة اعتقالي بسبب انتمائي العوني وكيف أُفرج عني.
■ كيف كانت طفولتك وشبابك؟
* رغم مآسي الحرب الأهلية والوصاية السورية، إلا أنني عندما أسترجع ذاكرتي تلك الأيام الخوالي، أشعر بابتسامة عريضة ترتسم على ثغري. ربما في تلك الحقبة كانت والدتي على قيد الحياة وكان أبي، رحمه الله، موجودًا يشعرني وإخوتي بالأمان. لكن طفولتي كانت مليئة بالرعب كما الكثير من اللبنانيين، رغم عدم إدراكي الواعي للمآلات السياسية ولعبة الأمم. ومع ذلك، لم نكن نشعر بالقلق والخوف من المجهول الذي نشعر به اليوم، فكنا نعيش الوحدة الوطنية بأبهى صورها وأعظم وأنقى تجلياتها.
لا أنسى تعميد أختي برناديت، رغم انتمائي إلى الطائفة الشيعية، وهذا دليل على أننا كنا نعيش الوحدة والتعايش حتى في أحلامنا. بعد أن كان أطفال والدتي لا يعيشون على راسي، حلمت أمي، رحمها الله، بالقديسة برناديت وقالت لها: "يا زينب، ستأتيك بنت تسمّينها برناديت، وبعدها سيعيش لك أطفال". وبالفعل هذا ما حصل، فقد ولدت برناديت التي بيني وبينها ما يقارب العشر سنوات، وبعدها رزقت أمي بثلاثة ذكور هم محمد وهيثم ووسام.
أما شبابي فقد وهبته للوطن وللسيادة والحرية والاستقلال من خلال انتمائي الفكري للحالة المسيحية في تلك الحقبة، التي كانت تقارع كل من يريد أن يكون وصيًا على لبنان. وحتى بعد نفي الجنرال عون واللواءين عصام أبو جمرة وإدغار معلوف، أحاطني الكثير من الرعيل الماروني القديم، وهم نخبة السياسة اللبنانية والعالمية، بالمعرفة وكانوا يصرون على حضوري، حيث فهمت العالم الذي أكتب عنه اليوم، وتُترجم أعمالي وتنتشر في العالم وكأنها الانعكاس العربي النادر الذي يدرك سياسة الغرب بأدق تفاصيلها، لذلك يطلق عليّ "ربيب الموارنة". كما كان للكنيسة الكثير من هذه الرعاية من خلال العديد من الرهبان، واهتم بتثقيفي مثلث الرحمة الأباتي أنطوان ضو الذي قال لي بتسجيل صوتي: "أدْعوك كما دعا الله الرسل لتكون رسول التعايش والحوار المسيحي الإسلامي."
■ أين تلقيت تعليمك؟ وما هو اختصاصك الأكاديمي؟
* كما بدأت بالتعريف، بسبب التحاقي بالحركة العونية، توقفت عند "البريفيه". وبعد عام 1990، لم نكن نستطيع إكمال تعليمنا أو حتى العمل خوفًا من الاعتقال من قبل السوريين، لأننا كنا نعرف وندرك أن من يعتقل لدى السوريين، فإن الموت أهون عليه من أن يتمنى الموت ولا يجده من شدة الترهيب والتعذيب وما كنا نسمع عنه من الكثير من المعتقلين.
لكن بعد أن بدأت تلك الملاحقات تنحسر، عدت وأكملت تعليمي وإن كان عبر المعاهد في تخصص الويب ديزاين والمونتاج والثري دي ماكس وكتابة لغة البرمجة. وأيضًا لم أتوقف، فقد عدت وأكملت "أونلاين" وحصلت على شهادة دكتوراه في الصحافة والإعلام من إحدى الجامعات، حيث كانت رسالتي حول الإعلام والدين، إضافة إلى مقالاتي التي غطت أكثر من 400 صفحة من رسالتي عام 2012. وما زلت حتى يومي هذا في كل عام أنضم إلى ورشة أو أشارك في اختصاص وأستمر في تحصيل مختلف العلوم والثقافات، بل حتى شاركت في دورات علمية حول بعض المفاهيم الدينية والسياسية لدى بعض المجتمعات الدينية ونجحت بتفوق، مع أنني لم أكن أفقه في الدين الإسلامي كثيرًا. فأنا أعرف الكنيسة أكثر من المسجد.
■ ما هي التحديات التي واجهتها خلال دراستك وكيف تجاوزتها؟
* لم أواجه تحديات معنوية لأنني أحب ما أقوم به. وأيضًا، كان تصميم المواقع الإلكترونية في بداية انطلاقها مربحًا جدًا. وقد نجحت في مجال العمل وتحصيل التعليم الذي كان في انسجام تام.
■ كيف تصفون بداياتكم في عالم الكتابة والتحليل السياسي؟ وما الذي دفعكم إلى هذا المسار؟
* كثيرون يعتبرونني اليوم كاتبًا متميزًا، خاصة أنني أكتب بأسلوب الرعيل الكبير من كتاب لبنان. لكنني في قرارة نفسي أشعر بأنني لم أحقق الكثير، خاصة وأن مخزوني من السياسة اللبنانية والعالمية، بسبب قربي من مراكز القرار، إضافة إلى النخبة التي عشت معها، يجعلني أشعر بأن لا فضل لتكويني العقلي بما أكتب. وإن كنت أجيد السرد والاستنتاج وربط الأمور ببعضها، إلا أنه بمقارنة بما أحتويه من معرفة عن نشوء النظام العالمي وأحداث الشرق الأوسط، فإن خزاني من التاريخ اللبناني الذي تلقمته بأدق تفاصيله من ساسة كان لهم الدور السياسي، يجعلني أعتقد أنه من الطبيعي لو أي إنسان عاش ما عشته كان سيصبح أمهر وأعظم وأكثر حضورًا مما حققته.
■ هل تعتبرون أن الإعلام اللبناني اليوم قادر على مواكبة التحولات السياسية بموضوعية وجرأة؟
* نعم، اللبناني بطبعه فنان مثقف رائد في المجالات الفكرية، بل ومتقدم بسنوات عن بقية الشعوب العربية وحتى بعض الشعوب الأوروبية. ولا احد ينكر ان كبرى المؤسسات الإعلامية والتعليمية العربية التي نجحت، كانت بذرتها لبنانية وتكوينها لبنانيًا. لكن اليوم، وللأسف، يلعب المال لعبته في التأثير والضغط على هذا الإعلام، مما قزّمه عند غالبية القوى السياسية المسيطرة عليه. لكن يبقى أن نعوّل على العقل اللبناني والقارئ أو المتابع العربي الذي يُبدي اهتمامه بمعرفة ما يجري ويحصل في العالم. ولا يوجد من هو على تواصل بمراكز صناعة القرار العالمي كالكاتب أو الإنسان اللبناني الذي وصل إلى مراكز متقدمة بسبب هجرته الأولى وقدرته على التكيف في مختلف التجمعات البشرية والإنسانية.
أما فيما يتعلق بالجرأة والموضوعية أو المهنية، فالإعلام اللبناني من الطبيعي أن يكون الأجرأ بسبب نمط حياته والدستور اللبناني الذي كفل الحريات العامة، مما أنتج مجموعات بشرية قادرة على قول ما يصعب على الكثير قوله في العالم العربي. كما أن اللبناني لا يمكن حصر تفكيره ضمن الصندوق، لذلك أي حراك فكري يقوم به اللبناني يكون في تركيبته الواعية قادرًا على قول الحقيقة بقوة وجرأة وموضوعية. وحتمًا، يبقى الكثير من المؤسسات الإعلامية تنتهج أساليب مختلفة، لكن حتى تلك التي تختلف معها لا يمكنك نكران قدرتها على صناعة الرأي العام.
■ نُشرت مقالاتكم في أكثر من خمسين موقعًا عربيًا ودوليًا، كيف ترون تأثير كتاباتكم على الرأي العام؟
* نُشرت مقالاتي بأكثر من هذا العدد بكثير، خاصة مع طفرة الإنترنت، بدأت أعمالي تغزو أوروبا وأمريكا، حيث بدأ الكثيرون يتواصلون معي لنشر أعمالي، وإن كان بأسماء مستعارة. لكن عندما بدأت أكتب في إحدى الصحف الأمريكية الناطقة بالعربية، حصدت مقالاتي عشرات الألوف من المتابعين الناطقين بالعربية، فكنت أكتب عن الحرية وانتقاد النظم الشمولية وتأثيرها على التطور المجتمعي والاقتصادي والثقافي. كما أن أسلوبي المُطعّم بالنكهة الثقافية للأدب، الذي ميز لبنان من خلال مجموعة عوامل منها الفلسفة والسياسة والرواية، استطعت أن أقدم نموذجًا جديدًا وخاصًا بي فيما يتعلق بالكتابة عن السياسة، فقد خرجت من القالب الجامد والأحادي التوجه، حيث دمجت تجربتي الشخصية وأيضًا ما سمعته من الكثيرين من النخب التي كانت تفلسف السياسة وتسيس الفلسفة، مما منحني هذا الحضور الذي يترسخ في العقل، ويُقال إن من يبدأ بقراءة مقال ناجي علي أمهز لا يستطيع التوقف حتى ينهي المقال، لأنني أكتب بأسلوب الرواية السياسية.
■ برأيكم، هل يستطيع الإعلام أن يكون أداة تغيير حقيقية في المجتمعات العربية؟
* بالطبع، أصلاً لا يوجد إلا شيئان يستطيعان أن يُغيرا في المجتمعات العربية والإسلامية، وهما رجال الدين والإعلام. فالرجل الشرقي يولد ويعيش وفي داخله وروحه هذا النوع من التلقي، أو القول إنه مهيأ لأن يتأثر بسبب هذين الأمرين، ربما بسبب خاصية اللغة العربية التي هي لغة عظيمة إلى درجة التقديس لغناها وقدرتها على توصيف الواقع أو رسم مشهدية لغزارة مرادفاتها. وهناك مثل حاضر لا يغيب وهو أسلوب جبران خليل جبران، الذي يجعلك بكلماته تعيش الواقع وكانك بداخله فتبتسم وتبكي. وتعشق وتكره، وتتفاعل الى اقصى الحدود.
■ كيف تتعاملون مع النقد أو الهجوم على آرائكم؟ وهل سبق أن تعرضتم لضغوط بسبب كتاباتكم؟
* في البداية، لم أكن أهتم أبدًا، فكنت أشعر بأنني كالقطار الذي لا يستطيع شيء أن يقف بوجهه، حيث كان المديح من نخبة اللبنانيين، خاصة المسيحيين، ينهال عليّ من كل حدب وصوب، بل وكنت نجم الصالونات السياسية، وكنت أفرح كثيرًا عندما أُدعى إلى سهرة ويكون الجميع بانتظاري، حيث يتفاجأ البعض بحداثة سني. لكنني كنت في النقاش أشعر أنهم يتناسون حداثة العمر بسبب مخزون هائل، حيث أُعتبر شاهدًا حقيقيًا على أهم الأحداث اللبنانية تقريبًا منذ عام 1988، مع أنني لم أكن بهذا القدر من الإدراك للتعقيدات السياسية، إلا أن هذه الملكة تطورت مع قادم الأيام وكثرة التجارب بين النخبة السياسية ومنها الرسمية التي كانت تحرص على اللقاء بي دوريًا والبحث في مختلف الأفكار.
لكن في الآونة الأخيرة، أصبحت أشعر بأن أقل كلمة تجرحني، ربما لأنني قدمت بصدق وشفافية كل ما أستطيع تقديمه، إن كان بالنضال أو الكلمة الصادقة، وكتبت مقالات ربما يعتبر بعضها محرمًا في السياسة، لكنني كنت أنشد أن يطلع هذا الجيل على أفكار الرعيل السياسي الثقافي القديم، حيث كان النخبوي اللبناني يتحدث في جونيه أو بيروت فيُسمع صوته في واشنطن أو الإليزيه كما لندن.
أو ربما أصبحت حساسًا أكثر من اللزوم بسبب تقدم السن، وربما كان رد فعل عندما أشاهد الكثير من الذين ظهروا مؤخرًا، وغالبيتهم أبواق إعلامية عملها فقط أن تردد ما يُقال لها، وعندما أشاهد هذه الفئة وهي تتنعم بكل شيء، بينما بقيت أنا ناسك الكلمة. حتى عند تأسيس مجلة غير سياسية اسميتها "الفكر الحر"، وقد حصلت على ترخيصها عام 2002، لأنني أؤمن بأن ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات هو الحرية، وأعظم ما في الحرية هو حرية الفكر والكلمة.
■ ما هي مسؤولية الكاتب اليوم في ظل انتشار التضليل الإعلامي والمعلومات المغلوطة؟
* لا توجد مسؤولية لأن المشروعية تنبع من الأخلاقيات والنبالة. فمن توجد فيه هذه الصفات سيكون حريصًا على ضميره وفكره. وإن كانت هذه الصفات غير موجودة، فمن الطبيعي أن يقوم هذا الإعلامي أو الكاتب بتطبيق أو تنفيذ ما يطلب منه مقابل ما يقبضه، لذلك مقولة: "الكاتب المأجور كالقاتل المأجور" ليست وليدة عبث، بل هي حكمة وأمانة الكلمة.
نوفل ضو، ناجي امهز، النائب العام الانطوني الاب بطرس عازار، الوزير السابق بشاره مرهج
■ كيف تقرأون مستقبل لبنان في ظل الانهيار الاقتصادي والتجاذبات السياسية؟
* حقيقةً، لبنان على مفترق طرق خطير ولأسباب عديدة، وإن كان قد لخّصها الشاعر السوري الكبير نزار قباني عندما كتب أغنية "يا بيروت" التي غنّتها السيدة ماجدة الرومي، وأعظم ما في هذه الأغنية أنها جسدت غيرة العواصم العربية من جمال بيروت. إضافة إلى أن التغيرات الجيوسياسية وتعاظم دور إسرائيل في المنطقة، حيث يدرك صانع القرار الإسرائيلي بأنه الوحيد القادر على منافسة إسرائيل بما يُعرف بالخدمات المالية والترانزيت وصناعة الإعلام والسياحة هو لبنان.
إضافة إلى أن لبنان بتعايشه المسيحي الإسلامي يشكل عقدة نقص عند إسرائيل التي تقوم على الهوية اليهودية، بينما لبنان يقوم على التعددية الطائفية. إضافة إلى أن الإنسان اللبناني هو الوحيد في منطقة الشرق الأوسط الذي فرض رؤيته العالمية، حيث شارك في إعداد القوانين والتشريعات في الأمم المتحدة وحقوق الإنسان، كما أن أعظم الأطباء هم لبنانيون. كما أن اللبنانيين نجحوا في مختلف قارات العالم نجاحًا قل مثيله، فقد وصل اللبناني إلى أرفع المقامات وأعلى المناصب وترك بصمة واضحة في التربية والتعليم وصناعة الاقتصاد العالمي.
كل هذه العوامل الإنسانية الإبداعية والأخلاقية تشكل تهديدًا للبنان، لأن لبنان عبارة عن "أرض الرب" كما ذكر في الكتب المقدسة، وحوله مجتمعات تحسده على هذا التمايز. وربما لو كان لبنان يمتلك المعدات والتقنيات والأسلحة العسكرية المتطورة، إلى جانب رقي وبسالة وبطولة وشجاعة وتضحيات الشعب اللبناني، لكان لبنان يحكم المنطقة ليس بعوامل القوة، بل بعوامل الإبداع ومبادئ الحرية والتطور في مختلف المجالات. وعلينا أن لا ننسى أن الشعب اللبناني الرائد هو الأساس في بناء ونهوض الدول العربية، بل الزعماء اللبنانيون المؤسسون للكيان اللبناني هم الذين فتحوا أبواب السلطة العالمية إلى غالبية حكام الدول العربية، لذلك كان الحكام العرب يتسابقون للتصاهر مع العائلات اللبنانية.
■ ما رأيكم في دور الجيش اللبناني كمؤسسة ضامنة للاستقرار؟ وهل ترون أن الدعم الدولي له كافٍ؟
* نحن تربينا على مقولة أننا "جنود الجنود في الجيش اللبناني"، بمعنى أوضح أن كل لبناني حر وطني شريف هو جندي عند الجندي اللبناني. وقد أثبتت الأيام أن الجيش اللبناني ليس جيشًا للبنان، بل الجيش هو لبنان، خاصة أن الجيش اللبناني تميز بقيادات وإن كانت عسكرية، لكنها جمعت الانضباط إلى جانب الثقافة واحترام القانون، خاصة حقوق الإنسان، فلم يسجل يومًا على جيشنا الوطني أي انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، مما وضعه في مصاف جيوش العالم المتحضرة والمتقدمة.
كما أن الجيش حافظ على مسافة متساوية من جميع الافرقاء السياسيين اللبنانيين وحمى الحريات العامة وحافظ على صورة لبنان الإنسانية، فقد كان يُكتب أنه "كل الجيوش العربية ترعب شعوبها بسبب النظم الديكتاتورية، إلا الجيش اللبناني الذي شكّل منذ ولادة لبنان الكبير الحماية للشعب من بقية الساسة وأصحاب المناصب". كما أن صورة لبنان الحقيقي، رغم مرور 50 عامًا تقريبًا على اندلاع الحرب الأهلية، بقي الجيش اللبناني هو الصورة الحقيقية للشعب اللبناني حيث جمع الجميع ومن مختلف الطوائف تحت راية لبنان الخفاقة. كما أن تضحيات المؤسسة العسكرية اللبنانية كبيرة جدًا في سبيل وحدة لبنان والدفاع عنه، لذلك لا يوجد ضامن للبنان إلا الجيش اللبناني، لأنه هو لبنان.
الكاتب ناجي علي امهز مع الأباتي الراحل أنطوان ضو
■ هل تعتقدون أن الطائفية السياسية ما زالت تشكل العائق الأكبر أمام بناء دولة مدنية؟
* بالطبع، كما قال السيد موسى الصدر: "الطوائف نعمة، والطائفية نقمة". أو بالأحرى، لعنة لبنان هي الطائفية. فالطائفية ليست خطرًا فقط على المدنية أو العلمانية، بل على أساس علة وجود لبنان. والطوائف إن لم تخرج من طائفيتها ستكون هي المسبب في موت لبنان.
■ كيف تقيّمون تأثير السياسات الإيرانية على الداخل اللبناني؟
بدايةً، قبل أن أجيب على هذا السؤال، لي رجاء أن لا يُفهم كلامي خطأ لأنني شيعي، لذلك جوابي هو انطلاقًا من قراءة سياسية واجتماعية ودينية عميقة. إن تحالف ونطرة شيعة لبنان الى إيران ليس إلا كنظرة الموارنة إلى فرنسا التي لُقبت بـ "الأم الحنون". فالموارنة الذين عاشوا هواجس التمدد الإسلامي كانوا يجدون في فرنسا الضامن والحامي والداعم لهم في عالم إسلامي لا يقبل الآخر. وهذا الأمر نفسه حصل مع الشيعة اللبنانيين الذين يعانون منذ قرون طويلة من الاضطهاد والحرمان والنبذ والتنكيل بهم، بل حصلت ابادات بحقهم بسبب الكثير من الفتاوى الإسلامية المشهورة تطالب بإبادتهم، فشعر الشيعة أن أمهم الحنون هي إيران.
لكن الفرق بين الشيعي والماروني أن الماروني يملك من الخبرة السياسية والقدرات الإعلامية على تطويع الفكرة بما يخدم مصالحه، وهذا ما حصل عندما تقارب مع العراق من أجل الحصول على دعم، وكان قبلها حصل على دعم من إسرائيل، عندما أغلقت بوجه الماروني كافة منافذ الدعم العربية ومنها الغربية عندما فوضت أمريكا سوريا بإدارة الملف اللبناني. لكن الشيعي، بسبب صعوده المتأخر إلى عالم السياسة، ربما لم يعرف كيف يسوّق فكرته عن تقاربه مع إيران، وهذا الأمر في العرف الاجتماعي طبيعي، فالشيعي لم يعش السلطة ويمتلك آليات الحكم كما امتلكها الموارنة الذين انتشروا في العالم منذ ألف سنة تقريبًا، أو السنة الذين بطبعهم هم الأمة وأهل الحكم. لذلك فُهم التحالف الإيراني الشيعي منذ بدايته بمفاهيم خاطئة او تم تاوليه لاسباب دينية وطئفية كما هو سائد في الصراع الشيعي السني التاريخي.
مع أنه كما الكنيسة تدين بالولاء إلى الفاتيكان، فإنه من الطبيعي أن يدين رجل الدين الشيعي بالولاء إلى النجف في العراق أو قم في طهران لأسباب دينية. ولكن الذي ميز الموارنة أن الكنيسة لا تتدخل بصورة مباشرة في الإدارة السياسية، مما منح هامشًا أكبر لرجال السياسة المارونية، بينما المجتمع الشيعي لا يحكمه إلا رجل دين. وبسبب أن رجل الدين عليه أن يتخرج من إحدى هاتين الدولتين، إما النجف في العراق أو قم في إيران، فكانت تغلب عليه الفكرة الدينية، مع أن النزعة الوطنية للشيعي لا مساس فيها أو غبار عليها.
واستطيع أن أخبرك صراحة أنه بسبب تقاربي مع النخبة المارونية الأساسية، وهي الرعيل الثاني من مؤسسي لبنان، لم أسمع يومًا من نخبوي ماروني كلمة واحدة قاسية تجاه الشيعة، بل يتحدثون عن الشيعة وكأنهم جزء من الطائفة المارونية. وهذا الحرص كنت أستشفه وأسمعه صراحة من الكثير من رجال الدين في الكنيسة المارونية، فالكنيسة المارونية قدمت الكثير للشيعة وفرضت وجودهم على راس السلطة التشريعية بسابقة في العالم العربي كمصب رسمي، ولم تبخل يومًا عليهم بأي جهد، حتى كتب الإمام علي التي طُبعت حتى بعد الحرب الأهلية هي بغالبيتها طُبعت على نفقة الكنيسة وليس آخرها كتاب "الإمام علي صوت العدالة الإنسانية" للفيلسوف الأستاذ جورج جرداق الذي ربطتني فيه صداقة ومعرفة في أواخر حياته رحمه الله. بل أستطيع أن أسرد أمامك سيلًا من الأسماء السياسية المارونية التي كانت ترى في الشيعي ضمانة المسيحي، كما كان السيد موسى الصدر وغيره من رجال الدين الشيعة يرون في المسيحي ضمانة الشيعي، بل إن تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كان بدفع من المسيحيين الذين دعموا إقامته، والذي تأسس عام 1967 بعد مرور أكثر من 20 سنة على استقلال لبنان، والا في تلك الحقبة عندما كانت كافة الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية الماروني لو اردا الرفض لما اقر المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى.
لذلك اليوم، عندما أسمع مسيحيًا، وخاصة مارونيًا، يتهجم على الشيعة، أو شيعيًا يتهجم على ماروني، أنظر بعين الحزن والأسى إلى هذا المستوى الذي وصلا إليه. وعلينا أن لا ننسى أن تقارب شيعة لبنان مع الإيرانيين كان في بدايته ونحن نتحدث في مطلع الثمانينات، حيث كان الشيعة لا يمكنهم التوجه إلى النجف بسبب حكم صدام حسين المناهض للشيعة، حيث كان يعتقل رجال الدين وحتى الشيعة العاديين، ولم تكن إيران التي كانت تخوض حربًا ضروسًا مع العراق وبقية العالم قد ارتسمت معالم دورها السياسي الكبير. وحتى إن غصنا بالعمق نجد أن إيران ربما بسبب توجهها المعادي لإسرائيل وُضعت في هذه الخانة السياسية عربيا وعالميا، ووُضع معها شيعة لبنان الذين عانوا من الاحتلال الإسرائيلي وقاوموا وقدموا التضحيات لتحرير الجنوب بدعم ايراني كما ساهموا بتحرير بيروت ولبنان. لذلك الموضوع الإيراني، من وجهة نظري السياسية، لا يؤثر في العمق على الثوابت الوطنية.
لكن المشكلة أن الطائفة الشيعية التي أقصت أمثالنا من النخب الشيعية، مع أننا كنا قادرين على تدوير الزوايا وتقديم مشهد أكثر توازنًا مع الصورة النمطية الكلاسيكية للسياسة اللبنانية، لكن بسبب الموروث التاريخي عند الشيعة، يبدو أن فكرة أن يقدموا البراهين للطائفة السنية أنهم جزء من العالم الإسلامي فرض عليهم أن يأتوا بإعلاميين سنة من لبنان وخارجه وحتى مسيحيين من أجل إظهار هذا التقارب، ففشل الاثنان بتقديم نموذج فكري أو تصور سياسي عن المشروع الشيعي اللبناني. أما لو استفادت الطائفة الشيعية من خبرتي ومهارتي السياسية التي اكتسبتها من تقاربي مع الطائفة المارونية ربما لكان الوضع مختلفًا تمامًا اليوم.
■ هل ترون أن الولايات المتحدة ما زالت تلعب دورًا فاعلًا في دعم لبنان، أم أن أولوياتها تغيّرت؟
* أمريكا كانت شرطي العالم سابقا، ولا أحد ينفي بأن أمريكا بنت أعظم حضارة تتعلق بالتطور الصناعي والتكنولوجي، إضافة إلى ترسيخ الحريات العامة في العالم. لكن أمريكا اليوم أصبحت إمبراطورية تحكم العالم، وهذا بسبب عقليتها السياسية الاقتصادية وبرغماتيتها في إدارة السياسة العالمية. فأمريكا لا تحكمها إلا مصالحها، وهذا ما أكده المبعوث الأمريكي توم باراك في مقابلته الأخيرة، بأن أمريكا لا تهتم إلا بمصالحها، وهذا الأمر في أعراف الدول هو أساس ولا يمكن العبث فيه كما لا يوجد مكان للمشاعر. لكن كما أشرت إلى دور لبنان التاريخي، إضافة إلى نخبه الذين وصلوا إلى أرفع المناصب والنجاحات الكبيرة التي حققها اللبنانيون في العالم، يبقى لبنان أولوية لدى الإدارة الأمريكية بسبب دور ومكانة لبنان، لكن في الختام، إن تعارض لبنان مع مصلحة أمريكا، فستكون مصلحة أمريكا هي الأساس، ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى الدعم الأمريكي للبنان انطلاقًا من هذه الاساسيات السياسية والاقتصادية.
■ ما موقفكم من الطروحات الدولية التي تتحدث عن إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة؟
* أعتذر عن تكرار الفكرة، لكن أنا ربيب النخبة السياسية المارونية، ومن وجهة نظري كقارئ سياسي بأن اتفاقية سايكس بيكو لم تعد تصلح في زمن العولمة وعصر الذكاء الاصطناعي، خاصة أن الدول العربية لم تواكب التطور أو تقدم أي إنجازات على المستوى العالمي، مما يجعلها في الأعراف الدولية هي بحكم غير موجودة، أو مؤثرة في صناعة القرار السياسي أو الاقتصادي أو حتى في التطور الرقمي الهائل، فنحن خارج الزمن والتاريخ ومن الطبيعي أن يحصل هذا الانهيار الدراماتيكي، وأن تتغير الخرائط وتتبدل النظم. فما حصل مؤخرًا بعد ظهور داعش هو مرعب بكافة المقاييس، خاصة على الأقليات ويبدو أن هذا المرض التكفيري لا علاج له إلا بإقامة فيدراليات أو مقاطعات ذات حكم ذاتي، لذلك تطور العالم والمتغيرات المتسارعة لن تتوقف عند الشعوب العربية والإسلامية، وفي ظل تفوق هائل لإسرائيل والأزمة الروسية مع الغرب، حتمًا ستتغير كل الخرائط إن كانت حدودية أو سياسية، بظل الصراع على موارد الغاز والثروات الطبيعية.
■ إلى أي مدى يتحمل اللبنانيون مسؤولية ما وصل إليه بلدهم؟ وهل هناك تقصير شعبي في الضغط من أجل التغيير؟
* هم يتحملون وزر كل ما جرى وسيجري للبنان لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، لكن أقلها أن اللبناني المتفوق في السياسة والمطلع على ما يجري عالميًا كان يجب أن يكون أذكى من الوقوع والوصول إلى ما وصل إليه. باختصار شديد، نحن اللبنانيون مسؤولون أولًا وأخيرًا على كل ما حصل لنا، لأنه لا يجوز أن يوجد في المنطقة من هو أذكى وأرقى وأعرف وأعلم من اللبناني على الأقل في المتغيرات السياسية وما يحاك للمنطقة. لكن للأسف، الطائفية لعبت لعبتها وما زلنا مستمرين في قتل أنفسنا وتدمير وطننا الذي هو جنة وجوهرة المتوسط.
■ كيف يمكن للبنانيين، داخل الوطن وفي الاغتراب، أن يساهموا فعليًا في إنقاذ لبنان من أزماته؟
* بالمحبة. علينا أن نحب وطننا لأنه في حال، لا سمح الله، حصل مكروه للبنان فلن يبقى من ذكرنا شيء وسنتوه في هذا العالم دون هوية أو قضية.
■ ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الشباب اللبناني في بناء مستقبل مختلف؟ وهل تعتقدون أن المبادرات الفردية والمجتمعية قادرة على إحداث فرق في ظل غياب الحلول السياسية؟
سأدمج السؤالين معًا لأنهما يحملان نفس المفهوم والجوهر. نعم، على شبابنا أن يعتزوا ويفتخروا إلى أقصى الحدود بانتمائهم اللبناني، فالجنسية اللبنانية هبة الهية هكذا ذكر في الكتب المقدسة بان لبنان ارض الرب، وأن لا يبخلوا بأي جهد أو مبادرة من أجل مساعدة لبنان والشعب اللبناني، فلبنان يستحق أن نهتم فيه كما نهتم بأنفسنا وأولادنا، وأن يكون كركن صلاة وعبادة وقداسة في فكرنا وروحنا، لأي طائفة انتمينا.
كما أدعو الدول والغيورين على لبنان أن يتم تفعيل النخب لأنها المخرج الوحيد لأزمة لبنان المستعصية، كما أن النخب قادرة على إنتاج التوازن والتعامل مع تقاطع المصالح بما يخدم تطور لبنان ودوره الريادي بين الأمم، أو أن يحافظ على مصالحه ومصالح الغير. لكن ترك النخب من دون دعم أو دفع إلى الأمام سيضع لبنان على خارطة الزوال لأنه، كما بدأنا، هناك أسباب كثيرة وقراءة في الاستراتيجيات تؤكد أن زوال لبنان قد يمنح بقية الدول حلولًا كبرى على حسابه، ومنها توطين الفلسطينيين أو توسعة دول على حساب جغرافيته. لذلك كل عمل وطني، مهما كان حجمه، هو يطور ويحمي لبنان ودوره الإنساني الحضاري في التعايش والجمال والكمال في العالم العربي الذي بدوره ان يدعم ايضا لبنان.
Comments